لفت نظرى مثال نشر فى الأسبوع الماضى فى جريدة بريطانية أسبوعية وكتبه متخصص فى الأدب الفرنسى إذ راعه ما حدث من تغير فى الحياة الثقافية فى فرنسا خلال نصف القرن الماضى، وقدم أمثلة لما حدث فيها من تدهور بعد الازدهار الذى شهدته السنوات التالية للحرب العالمية الثانية. ذكّرنا المقال بتلك الأسماء التى كانت على لسان الجميع خلال الخمسينيات والستينيات مثل جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار وألبير كامى وميشيل فوكو.. الخ، حين كان يشتد الجدل حول ما تطرحه كتبهم وتصريحاتهم من أفكار: هل الوجودية مذهب جدير بالاعتناق حقا؟ وإلى أى حد تختلف وجودية كامى عن وجودية سارتر؟ هل غيّر سارتر رأيه فى الشيوعية والنظام السوفيتى بعد احداث المجر؟ وما موقف اليسار الفرنسى من الخلاف الذى وقع بين الزعيم الصينى ماو تسى تونج والزعيم السوفيتى خروتشوف ..الخ. وصف المثال ما أصاب الحياة الثقافية فى فرنسا من جدب بالمقارنة بحيوية وخصوبة تلك الأيام لكنه لم يحاول تقديم أى تفسير لهذا التغير. ذكرّنى المقال بما كان يدور فى الحياة الثقافية فى مصر فى تلك الأيام ايضا: تذكرت كيف اهتم المثقفون المصريون بزيارة سارتر مصر فى منتصف الستينيات، بل الأهمية الكبيرة التى علقتها القيادة السياسية فى مصر فى ذلك الوقت على ما يمكن أن يكون رأى سارتر فى التوجهات السياسية للنظام المصرى، وكيف ابتهجت هذه القيادة بما أدلى به سارتر من تصريحات إيجابية امتدح فيها اشتراكية النظام وبناء السد العالى. كان لابد أيضا أن يثير هذا المقال فى ذهنى ذكريات عن الحياة الثقافية فى بريطانيا فى الفترة التى عشتها فى أثناء بعثتى إلى انجلترا، فتذكرت اشياء مماثلة جدا لما وصفه الكاتب من خصوبة الحياة الثقافية فى فرنسا فى الفترة نفسها، كانت اسماء مفكرين وأدباء كبار تتردد فى الصحف بل يستضافون فى التليفزيون كما كان المسرح الانجليزى لايزال يعرض مسرحيات برنارد شو وأوسكار وايلد، بالاضافة بالطبع إلى شكسبير وموجات جديدة من المسرحيين الجادين الذين اثبتوا نظريات حديثة لمشكلة الصراع الطبقى أوالعلاقات الإنسانية مثل هارولد بنتر مع استمرار إنتاج مسرحيات تشيكوف وبريخت باخراج جديد مع حركة نقد أدبى ومسرحى بالغة الحيوية..الخ. ثم تذكرت ما حدث من أفول وانحسار لهذا التوهج الثقافى مازال هناك بالطبع إنتاج فكرى ومسرحى وسينمائى جديد لكن يبدو أن شيئا مهما قد حدث اقترن باختفاء القامات الكبيرة التى كانت تخطف ابصارنا خلال ربع قرن التالى وانتهاء الحرب العالمية وكأن عزوفا عاما قد حدث عن إثارة القضايا المهمة أو كأن الاهتمامات الثقافية قد تعرضت لمنافسة قوية من الاهتمام بمشكلات جارية، سياسية وأمنية وعلى الاخص مشكلات اقتصادية. لاشك عندى فى أن هذه الظاهرة عامة حدثت فى أوروبا كما حدثت فى أمريكا وروسيا، وفى الدول الأقل تقدما اقتصاديا وثقافيا مثلما حدث فى الأكثر تقدما. لابد إذن أن يكون السبب عاما ايضا فما هى ياترى تلك السمات التى تميز بها هذا العصر الجديد مما يمكن أن يؤدى إلى هذه النتيجة التى تبدو مؤسفة للغاية؟ خطرت لى عدة احتمالات وأنا احاول الاجابة عن هذا السؤال خطر لى أولا أن السبعين عاما التى مرت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية يمكن وصفها ب العصر الأمريكى لقد ورثت الولاياتالمتحدة الدولتين الاستعماريتين القديمتين، بريطانياوفرنسا وتحولت مستعمراتها إلى صورة أو اخرى من الخضوع للنفوذ الأمريكى بل خضعت الدول الاستعمارية القديمة نفسها بما فى ذلك اليابان للنفوذ الأمريكى ايضا، وقد اتسمت الثقافة الأمريكية بتراجع الاهتمام بنوع المشكلات الفكرية التى شغلت المفكرين الأوروبيين فى سنوات ما قبل الحرب واستمرت تشغلهم لبعض الوقت بعدها ثم تركت مكانها لمشكلات أقرب إلى الحياةاليومية ومطالب الناس العاجلة. لكن خطر لى ايضا أنه خلال الأربعين أو الخمسين عاما الماضية انتشر فى العالم المتقدم اقتصاديا ومنه إلى بقية انحاء العالم، ولو بدرجات متفاوتة، ما سمى المجتمع الاستهلاكى، حيث تغلبت الطموحات المتعلقة بزيادة ما يحوزه المرء من سلع على غيرها من الطموحات والآمال وزاد تقدير الناس لمن ينجح فى تحقيق هذه الطموحات الاستهلاكية عن تقديرهم للناجحين فى مجالات أخرى، ألم يكن من المحتم والحال كذلك أن يضعف التوهج الفكرى الذى كان سائدا قبل الحرب وفى العقدين التاليين لها مباشرة؟ أم أن لهذه الظاهرة علاقة بما حدث ايضا فى الأعوام الاربعين الماضية مما نطلق عليه اسم العولمة؟ هل كان لهذا التوهج الفكرى علاقة بقوة الشعور بالولاء للدولة القومية، فلما بدأ الضعف يتسرب إلى الولاء من جراء انفتاح كل دولة على العالم الواسع نشأت اهتمامات تتعلق اساسا بتلك المجالات التى حققت فيها العولمة أكبر قدر من النجاح: سرعة انتقال المعلومات وثورة الاتصالات ونمو التجارة وارتباط كل ذلك بنمو ما عرف بالشركات متعددة الجنسيات؟ هل كان لابد أن يتحول الاهتمام أكثر فاكثر إلى موضوعات لها صلة باتساع نطاق تبادل المعلومات والسلع أكثر من صلتها بالمشكلات الفكرية المجردة؟ هل للأمر إذن علاقة بما يمكن اعتباره حلول الشركة العملاقة محل الدولة؟ هل نحن نعيش منذ أربعة أو خمسة عقود عصر الخصخصة حيث يحل الخاص محل العام بما فى ذلك المشكلات الفكرية العامة؟ ام أن الأمر أعمق من كل هذا واخطر؟ وان كل هذه الاوصاف التى اطلقناها على هذا العصر : العصر الأمريكى أو المجتمع الاستهلاكى أو عصر العولمة أو عصر صعود الشركات العملاقة ليست إلا مظاهر لشىء واحد أبعد غورا، هو حلول الاهتمامات المادية محل الاهتمامات الاخلاقية؟ هل الانسب وصف هذا العصر بانه عصر الاقتصاد حيث كاد يصبح كل شىء قابلا لان يقيم بالنقود، وقابلا للبيع والشراء وأصبحت نهضة الأمة تقاس بتقدمها الاقتصادى دون غيره، وفى عصر كهذا لابد أن ينحسر الاهتمام بما يسمى مشكلات أخلاقية إذ أن الاخلاق اصبحت هى نفسها خاضعة للتقييم النفعى أو المادى؟ هل كان هذا إذن هو ما قصده الاقتصادى الشهير مينارد كينز عندما وصف المبدأ الشهير الذى جاء به جيريمى بيتنام منذ نحو قرنين من الزمان ويعرف بمبدأ المنفعة بأنه كالدودة التى تنهش فى احشاء الحضارة الغربية؟ إذ يحكم على كل شىء وكل عمل على أساس المقارنة بين منافعه القابلة للقياس وبين مضاره؟ ربما كان الأمر كذلك فعلا فإذا كان كذلك فنحن نحتاج إلى أكثر من اصلاحات جزئية هنا وهناك وإلى أكثر من مجرد الدعوة إلى تجديد الفكر سواء كان فكرا دينيا أو غير دينى وإلى أكثر من مجرد إصلاح اقتصادى. اظن أن المطلوب يستحق أن يوصف بالثورة الروحية. لمزيد من مقالات د. جلال أمين