لابد أن أعترف أنني من جيل لم يصنع هذه الثورة العظيمة, التي نعيشها في مصر, فلقد ولدت في منتصف الخمسينيات وشاهدت عبدالناصر وسمعت من يكبرونني في السن عن ثورة الضباط الأحرار, وكيف كانت العدالة الاجتماعية هاجسها التي تبحث عنه وتحققه, وقرأت في كتب التاريخ عن ثورة91, وعرفت أشياء كثيرة عنها عندما شاهدت الأفلام المأخوذة عن نجيب محفوظ الذي كان مفتونا بهذه الثورة؟.. أما زعيمها سعد زغلول فلقد أغناني كتاب عباس العقاد:( سعد زغلول سيرة وتحية) وعرفت عن مفجر هذه الثورة الكثير والكثير.. وكان يحز في نفس جيلي كله ما نشاهده من مفاسد وتميز وتأخر فتخلت مصر عن ريادتها في الثقافة والسياسة, وكان يحز في نفوسنا أن نجدها في ذيل القائمة في كل شيء.. وكنا قد اعتدنا أن نجدها في المقدمة.. والمؤسف أن جيلي والأجيال السابقة كنا نري كل هذه الموبقات ولم يتحرك أحد, فقط كنا نمصمص الشفاه, ونحوقل ونستعيذ بالله من كل شيطان رجيم.. ثم نترك كل الأشياء تمر, وانتشرت المحسوبية, وأصبحت كلمة( بيه) و(باشا) تقال في كل مكان بدءا من موقف السيارات وحتي محراب العلم.. وكان شعار ثورة يوليو كلنا سيد في ظل الجمهورية, قد دفناه.. صنعه غيرها, صنعته الأجيال السابقة وكل ما فعلته الأجيال اللاحقة أنها قامت بدفنه.. وكأن شيئآ لم يكن. أقوال الحق, لم يتحرك ساكن, بل كنا نلوك بألسنتنا ما تربينا علي أنه باطل! ودعي وغير صحيح! والغريب أننا كنا ننظر بنصف عين, احتقارا, للشباب ونري أنهم يضيعون وقتهم فيما لا طائل من ورائه. وكنا نري أنهم يعبثون, ولعمري ما كان عبثا وانما كان ثورة يعدون لها.. وعندما قال رأس النظام السابق دعهم يتسلون, قلنا, بقلوبنا وراءه نفس الشيء, لكن شباب اليوم حاشا لله لم يكونوا يتسلون كما فهمنا وانما كانوا يعملون ويجتهدون وأشعلوها ثورة نفاخر العالمين بها, واجبرت نظاما بأكمله علي الاستقالة والتنحي, وامتلأت ميادين مصر بطلاب العزة والكرامة, والخبز, والعدالة الاجتماعية المفقودة. نعم لقد أصبح كل شاب بطلا, أضاف الي أمجاد ثورة عرابي عام28 وثورة سعد زغلول, وثورة عبدالناصر والضباط الأحرار ثورة أخري هي ثورة52 يناير أمجادا أخري, جعلتنا ننسي خوارق الزمن وننضم إليهم.. وأصبح الأبناء لأول مرة ربما علي حق, وأصبحت الثورة ثورة شعب بأكمله.. كنا نقول ساخرين عملها الأبناء ووقع فيها الآباء.. لكننا في هذا اليوم نقول فخورين: عملها الأبناء.. وشاركهم الآباء! إن شباب اليوم كانت عندهم بصيرة, وكانت لديهم رؤية وكانت أرواحهم علي أكفهم.. بل كانوا يرون ما لا نري!اليوم ظهر شباب الثورة في كل مكان, ومازالت أيديهم وعقولهم التي ظنناها خفية, تلعب.. لان الثورة لاتزال مستمرة! صحيح أنهم جلسوا في مقاعد كان النظام السابق يري أنها خلقت من أجله هو.. سواء في الحكومة أو مجلس الشعب أو في الوزارة ولا مكان للشباب في أي شئ.. حتي في العمل الشريف.. فكان كل بيت مصري به مثني وثلاث ورباع من العاطلين.. ولم يؤرق ذلك حاكم مصر بل خرج علينا أحد وزرائه يقول: إن الشهادة الجامعية أصبحت ضمن مبررات الزواج!! لكن أن يعمل بها صاحبها.. فهيهات! إن مصر يا قوم كانت في ظل النظام السابق قد خرجت عن نطاق الخدمة! وأصبحت لا حول لها ولا قوة.. يقتلون أبناءها علي الحدود.. ولا أحد يطلب اعتذارا.. ويغرق آلاف من أبنائها في البحر.. ويخرج حاكم مصر في اليوم التالي منشرح الصدر مبتهجا, وكأن شيئا لم يحدث في بر مصر, وكأن كل بيوت مصر لم تتحول الي مأتم كبير.. ودموع المصريين مدرارة علي فلذة الأكباد.. ونسي النظام من أجل سلامة العبارة وصاحبها الذي كان يتاجر في المصريين ولم يقل له النظام شيئا!! كان لابد أن تقوم ثورة, فالشعب المصري سئم حكامه.. قال لي شاب محموم: لقد ولدت وكان رأس النظام موجودا علي مقعد الرئاسة, ثم ذهبت الحضانة والمدرسة الابتدائية فالاعدادية فالثانوية, وذهبت الي الجامعة وأديت فريضة الدم والوطن وانضممت الي صفوف العاطلين.. ومازال رأس النظام موجودا, ومعه زبانيته علي رأس الحكومة ومجلس الشعب واتحاد العمال.. ثم قال لي وقد غلي الدم في عروقه: ماذا تريدني أن أفعل.. وقد سخر كل شيء لخدمته.. وسخر من كل شيء لي, وحرمني منه, حتي حقي في أن أحيا كريما أعمل وأعيش وأتزوج وأنجب أطفالا.. لقد تحول هذا الحلم البسيط الي كابوس, والسبب في ذلك هو وزبانيته الذين لا مكان لهم سوي طرة ومزارع طرة.. وربما لا مصير لهم سوي المقصلة ولننتظر حكم القانون في قاتل شعبه الذي رفعه الي أعلي عليين, فهبط به الي أسفل سافلين! لقد أثبت هذا الجيل أنه بطل مغوار, وأن النظام الذي كان يحكمنا طوال ثلاثين عاما هشا وضعيفا ولا حول له ولا قوة, وان ارادة الشعب فوق كل اعتبار! من كان يحلم أن يكون الشعب مصدرا للسلطات.. من كان يحلم أن يكون المساجين حكاما.. والحكام مساجين كما قالت احدي الصحف الأمريكية, من كان يحكم أن يكون واحدا من الشعب هو الدكتور محمد مرسي رئيسا لمصر.. أنها ارادة صناديق الاقتراع التي كفر رأس النظام السابق, فزور وفبرك معتمدا علي زبانيته الأوباش! من كان يحلم أن يخلصنا الشباب من الرقم الكريه9.99% الذي أرساه السادات حتي انه عندما أراد أن يحكم علي أمريكا لم يجد غير هذا الرقم فقال ان99% من ادارة اللعبة السياسية في أيديها! نحن نعيش عصرا جديدا بفضل من كانوا يعبثون ويتسلون, لقد نسينا في غمرة استكانتنا أن هذا الجيل سوف يصنع المعجزات, وها هو قد صنعها.. ولابد أن نعترف له بذلك.. فهذه الثورة التي هزت العالم وجعلت الكثيرين من يربطون بين ماء النيل والشعب المصري, فالنيل قد يكون رقراقا عذبا يتغني به الشعراء في رقته وهدوئه, لكن اذا غضب وزمجر فقد يقتلع الأخضر واليابس أمامه.. فهكذا الشعب المصري الذي يهدأ حتي يظنه البعض مستكينا.. لكن اذا غضب وزمجر.. فسوف يضع حكامه الميامين في السجون.. وهذا ما حدث فعلا لا قولا. إننا ندين بالفضل لهذا الجيل الذي حررنا مما كنا قد اعتدنا عليه من ظلم أبشع مما حدثتنا عنه كتب التاريخ في عصر المماليك! لقد كادت تصل المجاعة الي بيوتنا.. والنظام سادر في غيه لا وظيفة له سوي تزوير الانتخابات وجعل بعض الصحف التابعة له تتغني افكا بديمقراطيته! والاتيان بنجل الرئيس ليكون رئيسا وكأننا في ملكية لا جمهورية, كان يستعد للانقلاب علي ثورة يوليو وقد بدأها بالفعل ومهد لها سابقه.. لكن يمكرون ويمكر الله.. والله خير الماكرين صدق الله العظيم.. باختصار نحن مدينون لهذا الجيل.. بهذه الثورة, ثورة الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. المزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي