بين الوثائقى والسردى تمضى أحداث رواية «أحزان عازف الموت.. من سيرة الحاكم بأمر الله» للأديب محمد محمود الفخرانى التى يفتتحها بقوله: «عندما يتقمص الحاكم جسد إله أرضي، يمكث حزينا على الشاطئ البارد بلا غناء: فلا يجد من سبيل إلا إطلاق قوى لن يستطيع السيطرة عليها إلا باللجوء إلى الأقصى. وهكذا يصبح الطغيان شرا لا بد منه قبل أن تميد الأرض تحت قدميه». ثم يتبع ذلك إهداء بعض العبارات المستقاة من كتب التاريخ التى تناولت سيرة الحاكم بأمر الله. ثم يبدأ السرد المتخيل. هكذا تمضى فصول الرواية ما بين عبارات أو صفحات مستقاة من كتب التاريخ، والسرد المتخيل الذى يكسو هذه الصفحات التاريخية لحما ودما وإبداعا وفنا. لنجد أنفسنا أمام عمل متميز بطله المطلق هو الحاكم بأمر الله. وتشى البداية بأننا أمام شخصية غير عادية، لا أقول إنها غيرت التاريخ، ولكنها فى زمنها وحتى الآن كانت شخصية مثيرة للجدل، هناك من رفعها إلى مرتبة الألوهية وهناك من حط بها إلى أسفل سافلين. إنه الحاكم بأمر الله المنصور (985 - 1021) الخليفة الفاطمى السادس، حكم من 996 إلى 1021. ولد فى مصر وخلَف والده فى الحكم العزيز بالله الفاطمى وعمره 11 سنة, وتكنَّى بأبى علي، وهى كنية أخذها بعد ميلاد ابنه على الذى تلقب بالظاهر لإعزاز دين الله حينما تولى الخلافة بعد اختفاء أبيه, ويعتبر البعض أن الحاكم كان آخر الخلفاء الفاطميين الأقوياء. كانت عيناه واسعتين وصوته جهيرا مخوفا. اتسمت فترة حكمه بالتوتر، فقد كان على خلاف مع العباسيين الذين كانوا يحاولون الحد من نفوذ الإسماعيليين. فكيف تعامل الكاتب الفخرانى مع شخصية جدلية كهذه قرأنا عنها الكثير سلبا وإيجابا، حبا وكراهية، تعاطفا وبغضا، تعتقد أن دروب الحكم هى دروب الدم. فى حقيقة الأمر أننى كنت من المشفقين على الكاتب قبل قراءة هذا العمل الكبير، حيث إنه دخل فى منطقة صعبة المراس، منطقة شائكة تناولتها من قبل عشرات الأقلام قديما وحديثا، وأُنتج عنها أفلام وثائقية. إنها منطقة الصراع بين السنة والشيعة فى مصر فى تلك الحقبة التاريخية. البعض يخلط بين الحاكم بأمر الله وبهاء الدين قراقوش، ويظن أنهما شخصية واحدة، نظرا لأفعالهما المتقاربة والديكتاتورية المطلقة التى صبغت حكمهما، وظن من شاهد فيلم «حكم قراقوش» إنتاج 1953 إخراج فطين عبدالوهاب، بطولة زكى رستم الذى أدى دور قراقوش، أن الفيلم يقصد الحاكم بأمر الله. ولكن بالبحث والتقصى فى كتب التاريخ، نعرف أن قراقوش كان من أتباع صلاح الدين الأيوبى، الذى قضى على حكم الفاطميين فى مصر، وأن الحاكم بأمر الله كان فاطميا، بل كان آخر الحكام الفاطميين الأقوياء. إنها منطقة جدل تاريخى، لم يُحسم أمره حتى الآن، وأعتقد أن من سيقرأ رواية «أحزان عازف الموت» ويكتب عنها، لا بد له أن يكون على اطلاع بأحوال الأمة فى ذلك الزمن وتلك الحقبة، وأن يكون قد قرأ المصادر والمراجع الكثيرة التى رجع إليها الروائى الفخرانى وأمدته بعالم من التخييل كتب على أساسه روايته المهمة، ومنها «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة» لابن تغرى بردي، و»البداية والنهاية» لابن كثير، و»الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية» لمحمد عبدالله عنان، و»اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا» للمقريزي، و»الدعوة الفاطمية فى مصر» للدكتور أيمن سيد فؤاد، و»بدائع الزهور فى وقائع الدهور» لابن إياس، وغيرها. وأنا لا أدعى أننى قرأت كل هذه المصادر والمراجع التاريخية، لأستطيع مسايرة الكاتب فى استلهامها أو توظيفها أو تضمينها، ولكن أستطيع التعامل مع منطقة التخييل فى الرواية، وهى الأهم بالنسبة لى فى العمل الإبداعي. فالوثائق والمصادر والمراجع موجودة قبل التخييل الفخرانيّ، وتعامل معها الكثيرون سواء كانوا مؤرخين أو دارسين أو باحثين أو هواة، ما بين تحقيق ودراسة وبحث واستنطاق. وعليه أستطيع القول: إن الكاتب نجح فى الشق التخييلي، سواء من ناحية لغة السرد الشعرية التى تأتى تعويضا عن اللغة التقريرية فى مراسم الحاكم، أو الوصف والغوص داخل نفسية الحاكم بأمر الله وفى أعماقه الداخلية وفى فجوات نفسه وروحه، وخاصة وهو فى خلواته بالمقطم، ورياضته العليا التى يصل فيها إلى قوله فى مناجاته: «يحدونى الأمل أن أتشبه بك، وأن أحاكيك فى عليائك». ويدّعى - أو يدعون شيعتُه - أنه «آتاه الله الحكم صبيا». ويعاود التأكيد على هذا الأمر فى قوله: «هواجس راودتنى قبل أن يأتينى ربى الحكم صبيا» . بل يصل الأمر إلى أن جماعة من الجهّال إذا لقوه قالوا له: السلام عليك يا واحد يا أحد يا محيى يا مميت». وهى الدرجة التى رفعه هؤلاء الجاهلون أو الجهّال إلى درجة الألوهية. وحين اتخذ قرارا بقتل النساء أو انقلب على النساء مثل شهريار يقول: «اسألوا إلهكم لم هو على كل شيء قدير؟ أيحق له أن يشاء وقتما يشاء ولا يحق لي». هل كان الحاكم بأمر الله من المجانين وأصحاب نوبات المانخوليا، أم من سلالة أصحاب البصائر؟ وما الفارق بينه وفرعون موسى الذى ادعى الألوهية. تلك منطقة لا يعرف أن يتحدث عنها المؤرخون والباحثون والمفسرون العاديون والكتبة، لكنها منطقة يتحدث عنها المبدعون ويتخيلها الكتّاب والفنانون والنقاد الحقيقون الذين يحللون ويفسرون ما غمض على القارئ العادى فى المتون، ومن هنا يأتى ثراء تلك الشخصية غريبة الأطوار التى تدعى أن الآية العاشرة من سورة الدخان قد أنزلت عنه، أو تنبأت بظهوره. لمزيد من مقالات أحمد فضل شبلول;