ما أحوجنا إلى هذه العبادة، في هذا الزمان، الذي اتسع فيه الشح المادي والمعنوي، وامتد فيه الفقر، وابتلع كثيرين، وتعددت فيه الابتلاءات النازلة بالناس.. إنها عبادة "التحديث بالنعمة". والسؤال: كيف يحدث المرء بنعمة ربه، تنفيذا لأمره تعالى: "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ". (الضحى:11)؟ إن الآية، وإن كان التوجيه الإلهي فيها، هو للنبي، صلى الله عليه وسلم، إلا أن كل مسلم مأمور بأن يتحدث بنعم الله عليه، وفقا لها، باعتبار ذلك، من شكر الله سبحانه، وتعالى. لقد توقف العلماء أمام هذه الآية كثيرا، وقالوا إنها ترمز إلى معان عدة للنعمة المندوب التحدث بها. فقال بعضهم إن المقصود بها هو أن يتحدث المرء بالإسلام، وذلك بأن يؤمن به، ويدعو إليه.. قال تعالى: "فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا". (أي: بالإسلام). (آل عمران: 103). وقال مجاهد: النعمة هي القرآن، فإنه أعظم ما أنعم الله به، على محمد، عليه الصلاة والسلام ، والتحديث به أن يقرأه، ويُقرئ غيره، ويبين حقائقه لهم. وقال علماء: المطلوب شكر النعمة، أيا كانت، ولكل منها طريقة فى شكره تعالى عليها، سواء بإنفاق المال في أوجه الخير، أو استعمال نعمة الصحة في النافع والمفيد، وهناك التحديث بنعمة المنصب، وهو بأن تساعد به أهل الحاجة. وقال الألوسي: "كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك الله وهداك وأغناك، فلا تنس نعمة الله عليك فى هذه الثلاث، فتعطف على اليتيم، وترحم السائل، وتعين المحتاج". وقال علماء: "اذكر نعمة الله عليك في نفسك، ولا تنسها، فإنك إذا ذكرتها عليك في نفسك، حملك هذا الذكر على فعل الخير. وليكن شكرك على النعمة بالعمل بمقتضاها. فإن أغناك الله تعالى بالمال فتصدق على المحتاج، وإن أغناك بالصحة فساعد الضعف وأعن المظلومين، وإن أغناك بالوالد أو الوالدين فاعطف على اليتيم، وهكذا. على أن هناك فرقا قويا بين المباهاة والتحدث بما أنعم الله على المرء. رُوي عن الحسين بن علي، رضي الله عنه، أنه قال: "إذا علمت خيرا فحدث إخوانك ليقتدوا بك". وفي الآيات، أخَّر الله، تعالى، حق نفسه، عن حق اليتيم والعائل، كأنه يقول: أنا غني وهما محتاجان، وتقديم حق المحتاج أولى. أو أنه وضع في حظهما الفعل، ورضي لنفسه بالقول. ولأن المقصود من جميع الطاعات هو استغراق القلب في ذكر الله تعالى، لذا، جعل، سبحانه، خاتمة هذه الطاعات تحدث القلب واللسان بنعمه تعالى، حتى يكون ختام الطاعات: ذكر الله. "فحدث" أي ليكن ذلك حديثا لا يُنسى، تعيده المرة بعد الأخرى. وأخيرا، فإن من التحدث بالنعمة، إظهارها، سواء في الملبس الجديد، أو المسكن المريح، أو المظهر الطيب. فقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ ، وَيَكْرَهُ الْبُؤسَ وَالتَّبَاؤُسَ".(صححه الألباني في صحيح الجامع). والمعنى أنه إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى أثرها عليه، في ملبسه، ومأكله، ومشربه، وسائر أحواله. التحديث بالنعمة، إذن، عبادة لن تكلفنا كثيرا، بل يكفينا فيها قليل من الجهد والمال، وفي المقابل فإنها تستجلب زيادة النعم، وحلول البركة، إذ بالشكر تدوم النعم. قال تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ".(إبراهيم:7). [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;