رحلة طويلة خاض غمارها النوع الإنساني، استمرت مئات القرون حتى استطاع أن يحرر نفسه من تحكم الطبيعة. وهكذا أصبح الانسان هو الكائن الحى الوحيد الذى لا يقع تحت رحمة الطبيعة، فهو يوفر مقومات حياته بنشاطه الانتاجى فى الزراعة والصناعة. ورغم ذلك لم يكن انفصال الانسان عن الطبيعة تاماً ولهذا ظل يسعى باستمرار الى أن يزيد من استقلاله عنها. وينطبق مصطلح التكنولوجيا على أدوات اخترعها الانسان من آلاف السنين مثل الفأس والمطرقة والعجلة والقارب، كما ينطبق على الأسلحة النووية وأطفال الأنابيب والكومبيوتر وسفن الفضاء. لقد أتاح اكتشاف الطاقة البخارية التى أدت الى اختراع المحرك للانسان أن يقفز قفزات هائلة فى وقت قصير نسبياً. التعريفات التقليدية تنظر الى المنتجات التكنولوجية بوصفها وسائل يستخدمها الانسان لتحقيق غايات يحددها سلفاً، أو بوصفها نشاطاً عقلانياً يقوم به الانسان بشكل واع. ولهذا تعتبر التكنولوجيا فى المنظور التقليدى موجودة ساكنة يستخدمها الانسان لتحقيق غرض معين ثم يتركها ليعود لاستخدامها حسب الحاجة. يرى الفيلسوف الألمانى مارتن هيدجر أن هذه التعريفات قد عفى عليها الزمان ولا تحيط بواقع التكنولوجيا المعاصر، فهذه التكنولوجيا طغت وسيطرت على حياتنا المعاصرة بسبب نظرة تخلط بين الحقيقة والدقة وتربط بين السعادة والربح أو المنفعة. والتكنولوجيا، فى نظره، ما أن تبدأ فى العمل حتى تعيد صياغة العلاقات بين البشر، فينظمون حياتهم طبقا لمقتضياتها، وترسم للبشر مساراً اجبارياً هو الوحيد الذى يمكن لهم فيه توظيف ارادتهم. لقد أصبحت التكنولوجيا غاية فى ذاتها وليست وسيلة، وحولت ارادة الانسان الى وسيلة تتحقق من خلالها. ولبيان ذلك علينا أن نقارن بين الغايات التى كان يطمح الانسان الى تحقيقها من خلال التكنولوجيا وبين ما تحقق بالفعل. فقد لجأ الانسان الى التكنولوجيا لكى يجعل ممارساته اليومية أكثر فاعلية مما يقلل من جهده ويتيح له الراحة. كما أن التكنولوجيا تؤمن مستقبل الانسان من خلال النظر الى العالم، على أنه مواد خام أو رصيد مطروح للاستهلاك الانساني. وأخيراً تهدف التكنولوجيا الى زيادة سيطرة الانسان على الطبيعة من خلال زيادة قدرته على التحكم فى الأشياء والكائنات وامكانية التلاعب بها. ولكن فى الواقع، حسبما يرى مارتن هيدجر، ما تحقق هو العكس. فالانسان تحول اليوم الى حمار شغل يعمل أكثر من أى عصر مضي، وذهبت هباءً راحته التى كان ينشدها، كما سيطر على الانسان المعاصر قلق لم يعرفه البشر السابقون، وهو الخوف من نفاد موارد الطبيعة واستحالة استمرار الحياة الانسانية بعدها وفقد الانسان الشعور بالأمان فى المستقبل. ما العمل اذن؟ يجيب هيدجر: لا شيء. فعلينا أن نتفادى استخدام الارادة لأن ذلك سوف يزيد الطين بلة. ولكن، هذا لا يعنى الاستسلام لقدر محتوم، وانما على الانسان أن ينتظر. والانتظار ليس معناه، فى نظر هيدجر، ألا نفعل شيئاً. وانما يعنى أن نوجه أشواقنا وعواطفنا الى شيء آخر غير الانبهار بالتكنولوجيا، وأن ننظر الى ظرفنا المعاصر على أننا فى شدة نأمل أن تنفرج. الفيلسوف الألمانى مارتن هيدجر من كبار نقاد الحداثة، ومعروف بتقديره للحياة الريفية والتى يعتبرها رمزاً للوجود الانسانى الأصيل. ولهذا تم تفسير نقده أحيانا على أنه تجل للاتجاه المحافظ. ولكن كان هناك نقد للتكنولوجيا من منظور ثورى تقدمى قدمه فلاسفة مدرسة فرانكفورت، وهم يعتبرون التكنولوجيا اغتراباً للانسان يفقد فيها الانسان جوهره ويصبح عبدا لما صنعت يداه. وفى نظر مدرسة فرانكفورت كان هدف تحقيق السيطرة على الطبيعة، الذى عبر عنه الفيلسوفان الفرنسى ديكارت والانجليزى بيكون فى القرن السادس عشر، كان يعنى السيطرة على البشر أيضاً. فالتكنولوجيا تحقق سيطرة فعالة على حياة الناس دونما حاجة الى استخدام ايديولوجيا سياسية للتبرير. ونظراً لأن منطق التكنولوجيا يفرض نفسه على القاهر والمقهور فهى تبدو فوق الجميع. لكنها فى حقيقة الأمر ليست الا تكريساً لسيطرة المستفيدين من الوضع الراهن دونما الحاجة لاستخدام مقولات سياسية. وأخيراً يرى فلاسفة مدرسة فرانكفورت أن الانسان يمكنه أن يخوض مشروعاً تحررياً يطرح من خلاله علاقة جديدة مع الطبيعة بعيدة عن الاستغلال والسيطرة. ويلخص هذا النزوع المفكر الاشتراكى الايطالى بورديجا بقوله: بعد أن يتمكن البشر من القضاء على الاستغلال سوف يكون أول صنم ينهار من أصنام الرأسمالية هو صنم التكنيك. لمزيد من مقالات د.انور مغيث;