كانت الفلسفة منذ أن ظهرت فى اليونان القديمة وبعد أن ترجمها السريان إلى العربية، وترجمها الأوروبيون إلى اللاتينية مجالاً فكرياً يحظى بالتقدير والاحترام. ولم يكن هناك خصوم للفلسفة إلا بعض رجال الدين الذين كانوا يعدونها مغامرات عبثية من العقل البشرى للبحث عن الحقيقة، وأصبح لا لزوم لها بعد أن جاءتنا الحقيقة من الوحى الإلهى مرة واحدة وإلى الأبد. وبالرغم من ذلك استمرت الفلسفة تلعب دوراً مهماً فى تطور الوعى البشرى وخرج من باطنها علوم أخرى كثيرة. ومع التقدم العلمى الهائل فى العصر الحديث، ظهر للفلسفة خصوم آخرين، أولهم التيار الوضعى الذى يفسر تاريخ البشرية بثلاث مراحل متعاقبة: الدينية، الفلسفية، والعلمية. والفلسفة فى نظره تنتمى إلى مرحلة سابقة عفا عليها الزمان، والأسئلة التى كان الفلاسفة يتجادلون بشأنها صار فى مقدور العلم أن يقدم لها إجابات حاسمة. فموضوعات مثل أصل العالم، وأصل البشر، وتفسير حركة الأشياء، كلها موضوعات تعرض لها الفلاسفة بصورة تأملية وقدموا فيها آراء متضاربة، ولكن العلم أنتج بشأنها نظريات حاسمة قابلة للتحقق منها تجريبياً. الإتجاه الثانى يرى أن الفلاسفة يشغلون أنفسهم كثيراً بتصورهم المثالى عن الإنسان، ولا يلتفتون إلى الإنسان نفسه فى حياته الواقعية، فهم يتحدثون كثيراً عن الاغتراب، أى إنفصال الإنسان عن ذاته، ويقترحون كثيراً من الحلول النظرية أى الوهمية، فى حين أنهم لو نظروا إلى واقع الإنسان الحى لاكتشفوا، كما يرى ماركس، أن المشكلة تكمن فى تعرضه للاستغلال واضطراره إلى أداء عمل لا يحبه مقابل أجر يسمح له بالبقاء على قيد الحياة. الإتجاه الثالث هو النزعة التحليلية، ويرى أن العلوم تستمر فى الحياة بفضل ما تحققه من إنجازات يلمسها الناس ما عدا الفلسفة التى استمرت فى الحياة لأنها طرحت على نفسها مشكلات زائفة لا يمكن حسمها والانتهاء منها بقول قاطع. فقد اخترع الفلاسفة كيانات لا وجود لها، مثل الروح، المطلق، الجوهر، والماهية، إلخ. وصاروا يختلفون بشأنها ولم يعد أمام أحد أى وسيلة لحسم هذا الخلاف. ومن أنصار هذا الاتجاه أستاذنا زكى نجيب محمود، يشبه مشكلات الفلسفة ببيضة الفيل، فكلنا يعرف أن الفيل لا يبيض، ولكن لو افترضنا أنه يبيض، فما هو شكل بيضته؟ وما حجمها؟ وما هى المدة اللازمة لكى تفقس؟ ويبدأ الفلاسفة فى إنتاج الآراء المختلفة التى يستحيل أن نجزم بصحة أى منها أو خطئه. والحل فى نظر أصحاب هذا الاتجاه يكمن فى التدقيق اللغوى، بمعنى أن نحلل العبارات التى نسمعها لنتأكد من أن الألفاظ فيها تشير إلى كائنات واقعية، وأن الأحكام المتضمنة فى أقوالنا تكون قابلة للتحقق من صدقها فى الواقع العملى. تأثر الكثيرون بهذه الهجمات على الفلسفة، لكنها ظلت تحتل مكانة مهمة فى الإنتاج الفكرى المعاصر بفضل مفكرين أوفياء للمشكلات الفلسفية التقليدية مثل برجسون وهيدجر ومفكرين متمردين مثل نيتشه الذى قام بالتجديد فى الموضوعات التى تتعرض لها الفلسفة، وفى طريقة التعبير عنها. بل حتى من قلب الاتجاهات الرافضة للفلسفة خرج فلاسفة كبار مثل سبنسر وراسل اللذين جعلا وظيفة الفلسفة هى تعريف الناس بما تتضمنه النظريات العلمية من آثار على البشرية. ورأى أعلام مدرسة فرانكفورت أن الاستغلال والقهر الذى يتعرض له المواطنون تجعله الإيديولوجيا السائدة يبدو طبيعياً ومقبولاً، وينبغى نقد هذه الإيديولوجيا كى نسهم فى تحرير البشر، وهذا النقد هو مهمة الفلسفة . وفى النهاية نظل فى حاجة إلى الفلسفة إذ نواجه اليوم مجموعة من المشكلات لا يملك العلم لها حلاً، وانما تحتاج إلى الحكمة، وعلى رأسها مشكلة العيش المشترك، فالإنسان لا يعيش إلا داخل مجتمع، ولكى يستمر المجتمع ينبغى أن يكون هناك قانون وقيم مشتركة، ونظراً لتأثير تطور التكنولوجيا وأنماط الإنتاج على العيش المشترك تحتاج هذه القيم إلى مراجعة وتطوير، وهذا هو دور الفلسفة . ثانياً، يسعى الإنسان إلى الاستفادة من العلم فى زيادة رفاهيته، وها هو يجد نفسه فى علم مهدد بالتلوث ونفاد الموارد وعليه أن يبحث علاقة جديدة مع الطبيعة والكائنات الأخرى، وهى مهمة يُلقى عبء إنجازها على الفلسفة . وأخيراً أراد الانسان بفضل العلم أن يتحكم فى الأشياء، لكن العلم جعله أيضاً يتحكم فى الإنسان نفسه. وهكذا واجه الانسان بسبب الهندسة الوراثية والاستنساخ وزراعة الأعضاء تحديات أخلاقية لم تكن مطروحة عليه من قبل، وعلى الفلسفة أن تتعامل مع هذه التحديات الجديدة .. الهجوم على الفلسفة ليس جديداً لكنه كان وسيظل أحد أهم السبل لتجديد الفلسفة لموضوعاتها وأسلوبها ودورها فى حياة البشر. لمزيد من مقالات د.انور مغيث;