صراع طبقات فصراع ثقافات وأخيرا صراع أصوليات. والسؤال اذن: هل تعني هذه السلسلة من الصراعات أن الصراع سمة الحضارة الانسانية؟ كان جواب الفيلسوف اليوناني هرقليطس(544-483 ق.م) بالإيجاب, لأن الصراع, في رأيه, هو أبو الأشياء وملكها. يجعل البعض آلهة وأبطالا, ويجعل البعض الآخر بشرا, ويحيل البعض عبيدا, كما يجعل غيرهم أحرارا. أما في الزمن المعاصر فقد جاء الجواب بالسلب في مؤتمر عقد في فارنا ببلغاريا في عام1989 تحت عنوان شركاء معارضون لا أعداء. وقد اختير هذا العنوان إثر تفاهم بلغاري أمريكي تم إثر انتهاء مؤتمر جمعية الفلاسفة الدوليين لمنع الانتحار البشري نوويا الذي انعقد في سانت لويس بأمريكا في عام.1986 وقيل حينها إن موضوع مؤتمر فارنا هو من قبيل اليوتوبيا التي تعني حرفيا ما لا يوجد في أي مكان ويراد بهذا المعني كل فكرة لا تتصل بالواقع أو لا يمكن تحقيقها. ولكن اليوتوبيا, في جوهرها, رؤية مستقبلية مجاوزة للواقع. واذا كان ذلك كذلك فيبقي بعد ذلك التساؤل عما إذا كانت هذه المجاوزة تستند إلي معطيات علمية, فاذا كانت فهي قابلة للتحقيق, وإذا لم تكن فهي وهم. والسؤال اذن: أين الوهم وأين الواقع في رؤي فلاسفة ذلك المؤتمر الذي ينشد عالما بلا عداوة؟ أنتقي من أبحاثهم بحثا محوريا للفيلسوف البلغاري نيكولاي ايريباجاكوف, إذ كان حينها رئيسا لمجلة العصور الحديثة ورئيسا للجمعية الفلسفية البلغارية. يري ايريباجاكوف أن العصر الراهن هو عصر إعادة بناء الفلسفة. وهذا الرأي منقول من عنوان كتاب للفيلسوف الأمريكي جون ديوي وهو زإعادة بناء الفلسفةس(1920). والسؤال اذن: لماذا يعاد بناء الفلسفة؟ لأن ثمة ثورة في العلم والتكنولوجيا مع رؤية جديدة للقيم الانسانية, كما أن ثمة مشكلات مشتركة نشأت بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي مع إمكان العثور علي حلول مشتركة لأن الفلاسفة, في المقام الأول, هم موجودات انسانية عاقلة. وإذا كان ذلك كذلك فالصراع له نهاية ولكن نهايته مشروطة ببداية الحوار. إلا أن بؤس الفلسفة كامن في أن بعض مشاهير الفلاسفة لا ينشغل بالحوار. أمثلة لثلاثة فلاسفة: فتجنشتين وهيدجر ورسل. الأول وهو فتجنشتين فيلسوف نمساوي يري أن مهمة الفلسفة توضيح معاني اللغة العلمية. وقد أحدثت فلسفته تأثيرا علي حلقة فيينا ومفادها أن الفكرة تكون صادقة اذا كان لها مقابل في العالم الخارجي. وبناء عليه رفضت القول بأن ثمة ايديولوجيا علمية مثل الماركسية لأن الايديولوجيا نسق من القيم والقيم ليس لها مقابل في العالم الخارجي. والثاني وهو هيدجر فيلسوف ألماني يري أن الفلسفة عاجزة عن الاجابة عن قضايا العصر. أما الثالث وهو برتراند رسل فيلسوف إنجليزي فيري أن الفلسفة بلا مستقبل لأن العلوم الطبيعية والاجتماعية كفيلة بحل مشكلات البشر. والمفارقة هنا أن الفلاسفة السوفييت أنفسهم قد رفضوا الحوار مع سارتر عندما أصدر كتابه المعنون نقد العقل الديالكتيكي(1960) حيث أعلن إمكان عقد قران بين الماركسية والوجودية. وكانت حجتهم في الرفض أن نقطة البداية عند كل منهما في حالة تناقض حاد. فنقطة البداية عند سارتر الانسان الفرد أما عند الماركسية فهي المجتمع لأن الانسان بحكم تعريفها هو جملة علاقات اجتماعية.وقد أوضحت ذلك التناقض الحاد لايريباجاكوف بحكم الحوار الذي أجريته مع الفلاسفة السوفييت في الفترة من أكتوبر1968 إلي أكتوبر.196 وكان رأيي حينها أن ذلك التناقض الحاد مردود إلي تحكم دوجماطيقية ستالين في الذهنية السوفييتية, أي محكومة بمعتقد مطلق يمتنع تطويره. كان تعليق الفيلسوف السوفييتي ليو ميتروخين أن الفلسفة السوفييتية مستعدة الآن لعقد القران, ولكن المشكلة تقوم, في رأيه, فيما إذا كانت هذه الفلسفة هي الزوج أو الزوجة. وإذا كانت هي الزوج فهل هذا الزوج خاضع لنظام تعدد الزوجات أم خاضع لنظام الزوجة الواحدة؟ والسؤال بعد ذلك: هل كان متروخين ساخرا في ذلك السؤال؟ أظن أنه كان كذلك لأن الفلسفة الماركسية كنظام سياسي انتهت وذلك بسبب دوجماطيقيتها, أي بسبب توهمها أنها مالكة للحقيقة المطلقة. ومع دوام التوهم دوام الصراع. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال نظام الحكم في مصر فماذا تري؟ تري نظاما محكوما بجماعة الاخوان المسلمين التي تتوهم أنها مالكة للحقيقة المطلقة, ومن ثم تدخل المجتمع برمته في صراع محتوم. لمزيد من مقالات مراد وهبة