الأسبوع الماضي زار القاهرة الفيلسوف الفرنسي جيل ليبوفتسكي حيث ألقي عددا من المحاضرات، وحفلا لتوقيع ترجمة أحدث كتبه به وهنا استعراض لأهم أفكاره، وحوار معه عن زيارته للقاهرة. بعد النجاح الذي حققه هيدجر بقراءته للفلاسفة القدامي ومنهجه التأويلي وكذلك بعد ازدهار التفكيك الذي هو بحسب تعريف جاك دريدا استراتيجية في قراءة النصوص، عمل الفلاسفة المعاصرون علي تحليل نصوص الفلاسفة القدامي أو الأدباء وإعادة تفسيرها. ولكن المفكر الفرنسي جيل ليبوڤتسكي يسلك طريقاً آخر للتفلسف، وهو التأمل فيما يجري في الواقع الحي من أمور. بيد أن المعطيات الواقعية التي يهتم بها ليست أحداثاً كبري من نوعية سقوط جدار برلين أو 11 سبتمبر أوالحرب ضد الإرهاب أو أزمة البيئة وما إلي ذلك، ولكنها تتعلق بالاستهلاك والإعلانات التجارية والمكياج وكيفية قضاء وقت الفراغ. مثل تلك التفصيلات الصغيرة التي ربما نراها تافهة وليست نبيلة هي التي تكشف، من وجهة نظره، عن مدي التغير في الوجود الإنساني. ولما كان من الصعب الحديث عن طبيعة إنسانية فإن كل الأفكار الصلبة والمستقرة عن الإنسان مجرد بناء اجتماعي وفبركة قابلة للتغير باستمرار. وكل هذه الميول الإنسانية المُستحدثة مرتبطة بطريقة تنظيم التواجد المشترك بين الأفراد، أي بالسياسة. هذا الانشغال بالسياسة بُعد مركزي في نظرة ليبوڤتسكي للأمور الاجتماعية. وقد بدا ذلك واضحاً منذ كتابه الأول "عصر الفراغ" 1983، والذي يتعرض فيه للنزعة الفردية وتكريسها في ثقافة ما بعد الحداثة. فينطلق من أمور تستدعي استغراب الراصدين نظراً لما تنطوي عليه من تناقض. فالأفراد يتمسكون بحق الانتخاب ولكنهم يمتنعون عن التصويت، لا يبالون بالقضايا السياسية القومية الكبري ولكنهم يتحركون هنا وهناك دفاعاً عن من هم بلا مأوي أو عن المعاقين أو ضد تدخل دولتهم في شأن الشعوب الأخري، وينتهي إلي تعريف ثقافة ما بعد الحداثة بأنها تعايش الأضداد. وكان عالم الاجتماع الأمريكي دانييل بل في كتابه "نحو المجتمع ما بعد الصناعي" انتهي إلي رصد مجموعة من المخاطر التي تهدد في نظره الديمقراطية. ويري ليبوڤتسكي أن تلك المخاطر في حقيقة الأمر هي حظوظ للديمقرطية وتكريس لممارستها. فتواجد الأضداد ليس إلا مؤشراً علي ازدياد حرية الأفراد في مواجهة كيان الدولة القومية. وتتسم سياسة ما بعد الحداثة بنهاية المواطن (أي الإنسان حسبما تصيغه الدولة ودساتيرها ومؤسساتها ) وبداية الفرد (الذي يحدد لنفسه الصيغة التي يتعامل بها مع المجال العام ). ولذا فحين تتزايد الاتهامات بالنرجسية والأنانية فلها بالفعل أساس في الواقع، ولكنها ليست عيوباً بقدر ما هي سمة العصر. لقد انتهت الطموحات الثورية الكبري وما ارتبط بها من مشروعات تاريخية. الأمر ليس كارثة، كما أنه ليس نهاية سعيدة. لقد انتقلنا من عصر التحرر الإنساني الشامل، ذلك الهدف العزيز علي ثوار القرن التاسع عشر إلي عصر تحرر كل فرد حسب ظروفه. هذه الحرية التي يتمتع بها الأفراد لأول مرة، والتي زادت من قدرتهم علي تحديد مصائرهم الخاصة كان لها تأثيرها الواضح علي الأخلاق، وعلي دورها في المجال الاجتماعي. فيصف ليبوڤتسكي في كتابه "أفول الواجب" 1992، المجتمع المعاصر بأنه المجتمع ما بعد الأخلاقي. وهذا لا يعني انتفاء الأخلاق ولكنه يعني نهاية الأخلاق الكلية المفارقة، أي المفروضة علي الناس من أعلي. وهذه الأخلاق الكلية تجد جذورها في المرحلة التي كان الدين فيها مهيمناً علي البشر، وتم فيها ربط السلوك الأخلاقي بالجزاء الأخروي. حتي كان من البديهي وقتها أنه لا أخلاق بدون وحي سماوي، إلي الدرجة التي كان يُحاكم فيها من يزعم أن الصينيين يُميّزون بين الخير والشر دونما الحاجة إلي الوحي. ولقد بذلت الحداثة العلمانية، ممثلة في فلاسفة التنوير ومذهب المنفعة الإنجليزي، جهداً كبيراً لانتزاع الأخلاق من براثن المسيحية. وتم النظر إلي السلوك الأخلاقي بوصفه سلوكاً طبيعياً بل وصل الأمر مع ديدرو إلي اعتبار أن افتراض الجزاء الأخروي مفسد للسلوك الأخلاقي. كل هذه المحاولات وجدت أرقي تعبير لها في فلسفة كانط،حيث يري أن جوهر الفعل الأخلاقي هو أن يكون مُنزهاً عن الغرض، أي لا ينتظر الإنسان منه مصلحة لا في الدنيا ولا في الآخرة. كما اعتبر أن الالتزام الخلقي يمليه العقل الإنساني من خلال الواجب القطعي. ويري ليبوڤتسكي أن تلك هي الصيغة العلمانية من الأخلاق الدينية تحتفظ بمعظم خصائص هذه الأخلاق الدينية، وهي الإلزام المعمم، وابتعادها عن المصلحة الخاصة وارتباطها بالتفاني والتضحية واعتبارها أساساً للمكانة الاجتماعية. انتهي هذا المسار للعقلانية التقدمية في المجتمع ما بعد الحداثي. فتجرأ الأفراد علي تبني ما يروق لهم من سلوك في علاقاتهم العاطفية والجنسية دونما أي تنازل أمام آليات الإحراج الاجتماعي التي تفقد فاعليتها، وصار الأفراد يعبرون عن رغبتهم في تحقيق مصالح دونما الشعور بالذنب. هذا الاختيار الحر من جانب الأفراد للقيم التي يمتثلون لها كان له عظيم الأثر في المشهد الأخلاقي العام. ففي الوقت الذي يكتسب فيه الأفراد حريات غير مسبوقة في مجال الممارسات الجنسية ويزداد التسامح مع الأدب الخليع والفن الإباحي، نجد في الجانب الآخر نزعة تطهيرية تدين هذا التسيب وتراه خطراً. وبينما يزداد الحديث عن العودة إلي الدين يرصد المؤلف ارتفاعاً كبيراً ومتزايداً في نسبة من يصرحون عن طيب خاطر بأنهم لادينيون أو ملحدون. ففي عام 1967 كان 80٪ من الفرنسيين يصرحون أنهم مسيحيون في حين أنهم في عام 1990 بلغوا 45٪ فقط. وهكذا نعود مرة ثانية إلي تجاور الأضداد باعتباره مؤشراً علي ازدياد حرية الأفراد في السيطرة علي مصائرهم الخاصة. هذه النظرية تحولت إلي رؤية للعالم يري المؤلف من خلالها موضوعاته الأخري وينسب ليبوڤتسكي نفسه إلي الفيلسوف الفرنسي توكفيل في القرن التاسع عشر، والذي كان يري في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا، أن التاريخ العام للبشرية مُوجه إلي غاية واحدة هي الحرية. ومن هنا فإن منهج ليبوڤتسكي الذي يعتمد علي رصد تفاصيل الحياة اليومية للأفراد يجعله مرهونا بسياق ثقافي معين، ولكن رغم إشارة المؤلف إلي الفروق الموجودة بين الثقافات إلا أنه يري أن ملاحظاته وتحليلاته تعبر عن مجري عام تسيرفيه البشرية بأسرها. كتاب المرأة الثالثة 1997، شاهد علي هذا التناول. فجمال المرأة ليس معطي طبيعياً ولكنه معطي اجتماعي تاريخي ظهر في فترة معينة من تاريخ البشر ولأهداف تسعي إلي فرض السيطرة الذكورية علي المرأة. حتي ظلت المرأة في جميع المجتمعات ولفترات طويلة تخضع إلي التعريف الشائع بأنها هي النوع الذي ليست لديه أي سيطرة علي مصيره. وهذه هي المرأة الأولي التي تكون أحياناً تجسيداً للشيطان والرذيلة والفساد وأحياناً أخري تجسيداً للجمال ومنبعاً للرقة والحنان ولكنها في جميع الأحيان خاضعة لسيطرة الرجال أما المرأة الثانية فهي المناضلة الساعية للاعتراف الاجتماعي العام بحريتها وتحقيق المساواة الكاملة مع الرجال علي جميع الأصعدة. أما المرأة الثالثة فهي لا تسعي للمساواة مع الرجال بأي ثمن خصوصاً وأن هذا الثمن قد يأتي علي حساب اهتمامها بنفسها واستمتاعها بحياتها. فالمرأة لا تفرط في حقوقها ولكنها تستخدمها حينما تشاء. وحين يري البعض أن قلة نسبة المرأة في المجالس التمثيلية أو في إدارة الشركات الكبري تشير إلي نقص في الديمقراطية، يري ليبوڤتسكي أن ذلك يشير إلي العكس تماماً، أي إلي صياغة المرأة الفرد لحياتها الخاصة بكل حرية، وهو ما يعد تكريساً للديمقراطية. فيما يبدو أن ليبوڤتسكي يرصد سلوك البشر دونما نظرة مسبقة لما يجب أن يكون عليه الإنسان. ولهذا يتعامل كثير من المفكرين مع نزعات الموضة والمكياج والاستهلاك المفرط والاهتمام بالمظهر علي أنها تجليات جديدة للاغتراب في المجتمع الرأسمالي المعاصر، في حين يري فيها ليبوڤتسكي دليلاً علي تقدم مسيرة الديمقراطية.