سورة الفاتحة هى بداية القرآن، وهى أول ما تسمعه الأذن وتستقبل العقول والأذهان من كلام الله، وهى التى تتكرر فى كل ركعة من ركعات الصلوات، فيقرأها الإنسان سبع عشرة مرة فى ركعات الفرائض، وسبع عشرة مرة أخرى فى ركعات السنن، وقد فهم العقل المسلم من هذا أن الشرع الشريف يريد منه تكرار الفاتحة، والغوص فى معانيها ومضامينها، والتحليق فى آفاقها، فانطلق العقل المسلم فى ذلك، وجعل قراءة الفاتحة أول خطوة للزواج، وجعلها تقرأ ترحما على الموتى، وعند إتمام عقود البيوع، وعند نزول الشدائد يقرأها بنية الفرج، وكل ذلك حرصا على أن تتردد معانيها فى الذهن فتصنع العقل وتبنى منهجية التفكير، وصار العقل المسلم يسمع كل يوم عشرات المرات كلمة (الحمد لله رب العالمين)، وبها بدأ تكوين التصور الكامل للإنسان فى علاقته مع الأكوان، وترسيخ تلك العلاقة، ولفت النظر إليها، وبيان عمقها، وأن الإنسان فى سائر شئونه وعباداته ومجالات تفكيره مرتبط بالكون، بل بالأكوان كلها، ثم ينتقل القرآن من بيان وجود علاقة بين الإنسان وبين العالمين، إلى شرح منهج التعامل مع العالمين، وأنه مبنى على شقين: الرحمة والتعارف. فبعد أن بين سبحانه ارتباط الإنسان بالعالمين فى قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، انتقل إلى شرح منهج التعامل مع العالمين فى قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وفى قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). فتأسست من مجموع ذلك كله قيمة كبرى، وهى قيمة السعة، والتى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم: (إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، إنما يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق)، رواه الإمام الحاكم النيسابورى فى المستدرك. فصار من القيم الكبرى التى تكون الشخصية وتصنع العقلية، وتؤسس حركة الإنسان وأنشطته، هى هذه القيمة التى يخالطها العقل فى عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وبدأ العقل المستنير يتشرب هذه المعانى من الوحي، ويعكف على التفكير فيها، وتدريب الذهن على فهمها، وتحويلها من حالة تفكير فردى إلى حالة معرفية عامة، فولدت مراصد الفلك التى تطورت تطورا عجيبا، وسجلت كشوفا هائلة، وصنعت جانبا عظيما من هذه الحضارة، فتحولت قضية السعة من كلمة إلى قيمة إلى مؤسسة إلى حضارة، وبهذه القفزات الرباعية التى تتسع تدريجيا انطلاقا من الكلمة، التى تتحول إلى قيمة عظمى، فيتولد منها نشاط يصنع مؤسسة، فتولد الحضارة وقعت عند المسلمين عناية عظيمة بعلوم الفلك، وولدت المراصد الفلكية التى هى مؤسسات علمية تختص بدراسات (علم الفلك) أو (علم الهيئة)، أو (علم القبة السماوية)، أو (علم المدار السماوي)، وتعمل بالقياسات الدقيقة، وتقدم المعلومات عن حركة الكواكب، فيجمعها العلماء فى جداول منظمة، يسمى الواحد منها باسم الزِّيج (وهى كلمة فارسية) أو باسم القانون، وتوجد كلمة (الزِّيج) فى كتاب البتانى الرقى وهو من كبار الفلكيين المسلمين، والذى اهتم به الأوربيون وترجموه كثيرا إلى اللاتينية. والقياسات الفلكية كانت تتم وفقا لخطة محكمة تقسم السنة الشمسية إلى فترات زمنية محددة، مكّن العلماء من مقارنة المعلومات حول الكواكب بدقة، فكانت تسجل تتابع ظهور بعض الكواكب على الأفق يومًا بيوم، كما تسجل حركة الشمس أيضًا، التسجيل والقياسات كانا أساسًا لاستخراج القوانين العلمية. وتحت أيدينا كتابات عن مراصد العراق، ومنها: مرصد الشماسية، ومرصد باب الطاق، ومرصد شرف الدولة، ومرصد بنى الأعلم، ومرصد سامراء، ومراصد بلاد الشام، ومنها: مرصد جبل قاسيون، ومرصد البتاني، ومرصد إنطاكية، ومرصد ابن الشاطر، ومراصد مصر العظيمة، ومنها المرصد الحاكمى على جبل المقطم، ثم مراصد المشرق الأقصى كمرصد أصفهان، ومرصد مراغة، ومرصد أولغ بك، ومرصد نيسابور، ومراصد الأندلس كمرصد طليطلة، ومرصد قرطبة، وقد توزعت تلك المراصد على فترات التاريخ، وفى القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادي) عرفت عندنا عدة أرصاد، فى مدينة أصفهان، ومدينة الري، والقاهرة فى مصر، ومنها رصد السادة العلماء: القوهي، وأبى الوفاء البوزجاني، وعبد الرحمن الصوري، والخوجندي، وابن يونس الذى أنجز بالقاهرة (الزيج الحاكمي) فى عهد الحاكم بأمر الله. وإذا تركنا المشرق واتجهنا غربا إلى تجربة الحضارة الغنية والحافلة فى الأندلس فسوف نرى عددا من العلماء اهتموا بالأرصاد، ومنهم مسلمة المجريطى الذى راجع الجداول الفلكية التى أعدها محمد بن موسى الخوارزمى وترجمت إلى اللاتينية نحو سنة 1120م، وكان تأثيرها كبيرًا فى الغرب اللاتيني، وللحديث بقية. لمزيد من مقالات د.أسامة السيد الأزهرى;