أثارت مسألة تحديد بداية ونهاية شهر رمضان كل عام جدلا حادا بين المسلمين، خصوصا مع الجدل حول الأخذ بالتقدم الحادث فى علم الفلك والأقمار الصناعية التى تستخدم فى رصد النجوم والكواكب، ودقة علم الفلك فى حساباته وقدرة الأقمار الصناعية على الرصد. وجاءت فكرة القمر الصناعى الإسلامى وسيلة لرصد الهلال لتكون هى الفاصلة فى هذه المسألة، ولتتوحد الأمة الإسلامية على كلمة واحدة. ومنشأ هذا الخلاف أتى من جانبين، الجانب الأول يتعلق بما جاء فى الأحاديث النبوية الشريفة، فقد كان من الطبيعى فى العصور الإسلامية المبكرة أن ترتبط رؤية الهلال بالرؤية البصرية، لأنها الوسيلة الوحيدة الممكنة فى ذلك الوقت لاستطلاع القمر، ومعرفة دخول الشهر ولم يكن واردا أن يكلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بغير ذلك، مما لم يكن متيسرا لهم، لأنه يكون تكليفا بما لا يطاق «ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها» ولهذا قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما»، وقال: «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه». وقد جاءت رواية أخرى فى هذا السياق تعلل الاعتماد على الرؤية، حين قال عليه الصلاة والسلام: «إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب الشهر هكذا، وهكذا» يشير إلى أنه 29 يوما أحيانا و30 يوما أحيانا أخرى. وذلك من خلال ما عرفوه من رؤيتهم للهلال على مر السنين. هذا التعليل بكونهم أمة لا تجيد الحساب ولا الكتابة يعطينا مفهوما طبيعيا، أنهم لو كانوا أمة تجيد الحساب والكتابة، لأمكن الاعتماد على الحساب كوسيلة أخرى، وهذا يعنى أن الأمة الإسلامية حين تتقدم وتجيد الحساب الفلكى المقصود هنا كما حصل، يمكنها الأخذ به فى معرفة بدء الشهور القمرية، لاسيما أن الرسول لم يقل: لا تصوموا إلا للرؤية. بل قال: صوموا لرؤيته. وكانت وسيلة الرؤية هى المتيسرة للجميع، فكان الاعتماد عليها فى ذلك الوقت المنطق الإسلامى الطبيعى، وهذا لا يمكن أن يسد الباب أمام أية وسيلة أخرى. الجانب الثانى يتعلق بنشأة علم الفلك، فقد ارتبط علم الفلك فى العصور الإسلامية المبكرة بالتنجيم بالغيب، وأطلق على الفلكيين آنذاك المنجمون، وهم الذين يتحدثون عن النجوم ومسارها أو مواقعها، ويدعون أنها تنبئهم بمجال الإنسان، ويرضون بذلك غرائز الناس فى حب استطلاع المستقبل، وهم غير صادقين فيما يتنبئون به، لأن أقوالهم لا تقوم على أساس علمى دقيق، ولكنهم يرسلون الكلام إرسالا، وقد يصدق مصادفة، وغالبا لا يصدق، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام عنهم «من صدق كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد» وقد ألقى هذا ظلالا كثيفة على المنجمين الفلكيين القدماء، وأدى إلى عدم الالتجاء إليهم أو تصديقهم. حدث تحول مهم بمرور الوقت نتيجة لاهتمام الإسلام بالعلم ودعوته إلى تأمل حقائق الكون وأسراره، هو أنه فرض عليهم أمورا تستلزم دراسة الكون ومعرفة الزمن والأوقات لتحديد مواقيت الصلاة وظهور الهلال ومواعيد الأعياد وتأدية المناسك والعبادات وتحديد اتجاه القبلة ومواقع البلدان. لذلك بدأ الاهتمام بدراسة الفلك والأرصاد واستعانوا فى أول الأمر بمعلومات الأمم السابقة، ثم استقل علم الفلك عن التنجيم، وصار لعلماء الفلك احترامهم وتقديرهم خصوصا منذ العصر العباسى، حيث أصبح علم الفلك علما رياضيا يقوم على البرهان والحقائق العلمية، وكان لأبحاث ابن الهيثم ومؤلفاته دور فى إحداث هذا التحول فى علم الفلك، فقد أثبت من خلال أبحاثه أن للنجوم أشعة خاصة ترسلها، وأن القمر يأخذ نوره من الشمس، وحسب علو الطبقة الهوائية المحيطة بالأرض وقدرها بخمسة عشر كيلومترا، كما أنه اهتم بتعليل ظهور الهلال والغسق وقوس قزح واخترع أول عدسة مكبرة للقراءة، واعترف المؤرخون بفضله الكبير، وواكب تقدم علم الفلك فى عصر النهضة الإسلامية انتشار المراصد فى جميع أنحاء الدولة الإسلامية، فقد بنى الأمويون مرصدا فى دمشق، اعتبره بعض الدارسين أول مرصد فى الإسلام، وبنى أولاد موسى مرصدا فى بغداد، وأنشأ الفاطميون المرصد الحاكمى على جبل المقطم وقد اشتهر بأجهزته الدقيقة وبتفوق المشتغلين فيه. وكانت هناك مراصد أخرى عديدة فى الشام وأصفهان وسمرقند ومصر والأندلس. وإلى جانب قيام المراصد الفلكية تمكن العلماء من اختراع العديد من الأجهزة الدقيقة التى تستخدم فى عمليات الرصد مثل المزولة الشمسية والساعة المائية لتحديد الزمن والأسطرلاب العربى لتحديد الارتفاع ومعرفة الزمن الأوقات. وشاع استخدام الأسطرلاب فى المراصد التى أنشأها العرب، وكان الأساس لنظرية عمل جهاز التيودوليت الحديث المستخدم بكثرة فى أغراض المساحة الجيولوجية لقياس الزوايا الأفقية والرأسية. وكان لهذا التقدم أثره على موقف الفقهاء من علم الفلك، فتقى الدين السبكى يذكر فى فتاواه، أن الحساب إذا دل بمقدمات قطعية على عدم إمكان رؤية الهلال لم يقبل فيه شهادة الشهود، وتحمل على الكذب أو الغلط، ثم يقول: «لأن الحساب قطعى والشهادة والخبر ظنيان والظن لا يعارض القطع، فضلا عن أن يقدم عليه والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسا وعقلا وشرعا، فإذا فرض دلالة الحساب قطعا على عدم الإمكان استحال القبول شرعا لاستحالة المشهود به والشرع لا يأتى بالمستحيلات «ثم يقول بعد ذلك: «واعلم أنه ليس مرادنا بالقطع ها هنا الذى يحصل بالبرهان الذى مقدماته كلها عقلية فإن الحال هنا ليس كذلك وإنما هو مبنى على أرصاد وتجارب طويلة وتسيير منازل الشمس والقمر، ومعرفة حصول الضوء الذى فيه، بحيث يتمكن الناس من رؤيته والناس يختلفون فى حدة البصر». وكان الشيخ المراغى حين كان رئيسا للمحكمة العليا الشرعية فى مصر رأى كرأى السبكى، وأثار به جدلا شديدا، إذ رد شهادة الشهود برؤية الهلال لاستحالة رؤيته فلكيا، لكن رأيه هذا أثار معارضة العديدين منهم العلامة أحمد شاكر ووالده، ثم رجع أحمد شاكر عن هذه المعارضة بمرور الوقت. وزاد على ذلك أنه يجب إثبات الأهلة بالحساب فى كل الأحوال إلا لمن استعصى عليه العلم به. وعلى الرغم من من هذا كله ظلت الرؤية هى الوسيلة الوحيدة عندهم لإثبات دخول الشهر الهجرى. وتمسك بهذا الأمر علماء كثر، إلى أن عقد فى لندن فى مايو عام 1984 مؤتمر علمى إسلامى، لمناقشة هذا الأمر، وأوصى المؤتمر فى نهاية اجتماعاته بأن الحساب العلمى الفلكى لو قرر وجود الهلال فى الأفق بعد غروب الشمس ولو لدقيقتين فقد دخل الشهر، ولو لم يره أحد. وكان هذا أول ملتقى فكرى إسلامى، يقرر هذه الحقيقة. وفى نفس العام بحث مجمع البحوث الإسلامية فى الأزهر هذه المسألة بناء على طلب من منظمة المؤتمر الإسلامى، وانتهى إلى أنه «نظرا لأن البلاد العربية تتحد فى وجود القمر فى أفقها بعد غروب الشمس وإن اختلفت مدة مكثه بين بلد وآخر، يمكن للبلاد العربية أن تعتمد على الحساب الفلكى وتتوحد بذلك الأحكام المترتبة على ثبوته فى الرقعة الكبيرة من العالم الإسلامى من حيث بدء الهلال، والأعياد والحج وغير ذلك».