في ظل أنظمة ثقافية مهترئة، يدفع المثقف الحقيقي أثمانا باهظة، عليه أن يتحملها بكبرياء فريد، فالموظفون الثقافيون يضيقون ذرعا بالأسئلة، يكرهون النقد، فما بالك بالمساءلة المعنوية. فالعقل التقليدي الذي يحكم الثقافة المصرية الآن جامد، وعصابي، يواجه النقد بالعنف اللفظي والمعنوي، ويجابه المعرفة بالخرافة، وما حدث مع كثيرين في الآونة الأخيرة يعزز هذا المعنى، ويؤكد أن ثمة نهجا يحرك بعض مسئولي وزارة الثقافة لاستئصال العقل النقدي، الذي يطرح الأسئلة أكثر من أن يقدم الإجابات الجاهزة. ولأن عقلا يقينيا يمسك زمام الأمور، ستجد رغبة عارمة في تثبيت اللحظة وتأبيدها، تسكينا لأوضاع عبثية تمر بها الثقافة المصرية في لحظتها الفارقة. لم يكن شيء أقسى على أمة واجهت عصابات الإسلام السياسي من أن تفقد غطاءها الفكري، من أن تصبح فجيعتها الحقيقية ممثلة في نخبة مهترئة ومزيفة تنتقل من خانة المثقف التبريري الذي يبرر للسلطة أي شيء وكل شيء، إلى خانة المثقف المرتزق الذي يستخدم أقبح أشكال العنف اللفظي والمعنوي، ويصبح قابلا للإيجار في أي وقت. كيف ينظر هؤلاء المستأجرون من قبل السلطة الثقافية إلى أنفسهم في مرايا الذات والعالم، كيف يقفون موقف الأجير بدلا من موقف المثقف، فيجابهون أي فكرة طليعية، ويحاولون النيل من أي منتقد للسياسات الثقافية الرسمية الراهنة التي أفقدت الدور الثقافي المصري معناه، وتراجعت بالقوة الناعمة إلى منحنى لا يليق بالدولة المصرية وأمتها وتاريخها وتراكمها الحضاري متعدد الجذور والتنويعات. إن الأمم التي تتخلى عن قيمة النقد والمساءلة تتجه بمحض إرادتها إلى العدم، وتصبح حينها نسيا منسيا، والثقافة هي أكثر التعبيرات بلاغة عن فكرة الاختلاف والتنوع، غير أن ما يراد بها الآن يبدو مهزلة كبيرة، فالابتزاز المستمر عبر التشويه العمدي للمخالفين وترويج الشائعات الرخيصة يعد رهانا خاسراً تستخدمه السلطة الثقافية لتصفية منتقدي أدائها الذي لا يليق بالثقافة المصرية ولا بالدور الحضاري المصري بوجه عام، هذا الدور الذي شوهه الصغار بكثير من الأريحية والثقة المفرطة في أن ضريبة الحساب لا تأتي أبدا في ظل انشغال الدولة المصرية بملفات تراها أكثر أهمية وحيوية. في الآونة الأخيرة دأب موظف ثقافي على استئجار بعض المثقفين المنتفعين بعطايا الهيئة التي يديرها لإسكات المنتقدين لأدائه الفاشل، مستخدمين سلاح التشويه واختلاق الأكاذيب، فلم نشهد تحريضا على المثقفين في أي لحظة مثلما نشهد الآن، وكان آخر ما حدث مع الصحفي والشاعر علي عطا دليلا دامغا لما وصلنا إليه من انحطاط في أسوأ فترات الثقافة الرسمية على الإطلاق، ، حيث انتقد كتابا لاحتوائه تلفيقا بخصوص وهم العثور على نظرية جديدة، متسائلا عن دور الهيئة في نشره، في حين أنها تتجاهل عشرات الإبداعات الحقيقية وتتخلف عن مواكبة الحركة الإبداعية والفكرية في مصر، ومن المفارقات المخزية التي تحدث الآن أنه حين تمارس حقك الطبيعي في النقد والمساءلة الفكرية أن تكون هدفا لحملة مسمومة، يتعرض لها كل من يسعى لإصلاح مناخات العتامة الثقافية الراهنة، وهذا عين ما حدث مع مثقفين آخرين، وأجزم أنه سيحدث طالما ظلت هذه الوجوه الضعيفة تدير مؤسساتنا الثقافية. تفتقد الثقافة المصرية الآن مشروعا ثقافيا وطنيا بحق، ينفتح على أبعاده الجغرافية والسياسية، ويعانق الثقافة العالمية ويصبح شريكا في المنجز الثقافي العالمي. لن يبدأ المشروع باستئجار المثقفين ولا بتدجينهم لكنه يبدأ بإعادة الاعتبار لمعنى الثقافة ذاتها، لصورة المثقف عن ذاته، لمنحه مساحات أكبر من النقد والاختلاف كي يمارس دوره الفعال باعتباره صوت ناسه وحلمهم في عالم أفضل. من المثقف العضوي ينطلق المشروع الثقافي الوطني الحقيقي، من وجود سياسات ثقافية محددة تخص النشر والمجلات الثقافية والتبادل المعرفي مع المحيطين العربي والإفريقي، من كشف الوجه الإبداعي المطمور للثقافة المصرية، من تشغيل المسارح المعطلة، والمشاركة الفاعلة في صناعة السينما، من تحويل بيوت الثقافة المنتشرة في أرجاء الجمهورية إلى مراكز تنوير حقيقية، تسهم في صناعة الوجدان العام. ينطلق المشروع الثقافي الوطني أيضا من تغليب قيم الكفاءة والنزاهة، وإعمال العقل، والإدارة بالمعرفة، واستيعاب المبادرات الخلاقة من خارج المؤسسة، والمشاركة في صناعة العقل العام، ومجابهة التطرف وتجفيف منابعه الفكرية، عبر مساءلة الموروث، والتكريس لمناخات جديدة، تستمد روحها من قيم التقدم، والاستنارة، والوعي بجدل السياسي والثقافي، وفض التحالف المشبوه بين الفساد والرجعية، أما حالة الأمية الثقافية التي تشارك المؤسسة الرسمية في التدشين لها بمضاء شديد، فهي لن تجلب سوى مزيد من الخيبات لأمة على حافة العالم، ولن تجني معها الثقافة المصرية سوى مزيد من الإخفاقات التي يدفع باتجاهها جهلة، ومرتزقة، وسماسرة. لمزيد من مقالات د. يسرى عبدالله