تحكى الأسطورة التى صارت جذرا لنصوص إبداعية عالمية، عن النسَّاج المحتال الذى أقنع الملك بأنه سيصنع له ثوبا سحريا، لا يراه سوى الحكماء، وحين حان أوان خروج الملك على حاشيته، ذهلوا من أن الثوب الاستثنائى لم يكن سوى اللاشيء، لكنهم خشية غضب الملك، تفننوا فى مديح الثوب وناسجه رغم أنه لا ثوب أصلا على جسد الملك، غير أن طفلا، وسط شهود الزور، نطق بالحقيقة التى صارت أمثولة: «إنى أرى الملك عاريا»، غير أن الحكاية الشعبية وتجلياتها فى الأدب العالمى حين وظفت دلالة الطهر والنقاء فى خطاب الطفل ضد زيف الجموع، لم تتوقف كثيرا عما حدث للطفل من إكراه وعنف لفظى واتهامات بأنه لا يبصر ولا يري، وربما تدفعنا الحكايات الشعبية والنصوص الأدبية على إكمال الفراغات الناقصة، واستبطان جوهر الأشياء. وهنا يتبدى الثمن الباهظ الذى دفعته البراءة ثمنا لآثام الجماعة، كما تتبدى الحقيقة كأنها لعنة صاحبها، من ثم ليس مدهشا أن يعاقب العقل النقدى بجريرة فضحه لمظاهر الزيف، ويبدو أن هذا العقل سيظل مطاردا حتى يلقى مصير طفل الحقيقة، ومن نافلة القول أن المثقف قطعا سيدفع، فى مناخات الخسة تلك، ثمن حقيقته باعتبارها صنوا لوجوده، وتعبيرا عن جوهر حضوره الدال فى لحظات مرتبكة ومفصلية من عمر الدولة المصرية، هذا المثقف المشغول بعوالم خارج ذاته يشير إلى الموضوعى دوما، وتتمثل بوصلته فى انحيازه لخطاب الاستنارة، والانتصار لقيم التقدم التى تبدو على المحك الآن فى ظل سلطة سياسية/ ثقافية يهيمن المد الدينى على فضائها العام منذ أربعين عاما أو يزيد . وحين ينهض المثقف النقدى بمهمته التى أملاها عليه ضميره، عبر محاولة تعزيز كون هذا المثقف أعلى تمثيلات الحقيقة، واعتقاده الثابت بالدور المركزى للمثقف العضوى فى ظل مجتمعات نهشها الفقر والجهل وأكلها الصدأ والنسيان، حين يتجه المثقف النقدى صوب هذه الحقيقة المتعينة فإن مصيرا هزليا مثل الذى حاق بطفل الملك ينتظره، غير أن طفل الحكاية الشعبية ليس عين المثقف النقدي، فالتراكم والخبرات الحياتية وتوقع أثر القول والكتابة ربما يمنحه قدرا من الارتفاع فوق اللحظة وقراءتها على نحو أكثر عمقا ودلالة. حين أشرنا من قبل إلى فرار الثقافة الرسمية ممثلا فى وزارتها من معركة الأمة المصرية ضد عصابات التطرف والإرهاب، وخلصنا إلى أن تحالفات التطرف تدير الثقافة لم نكن أمام قضية فردية تخص أحدا بعينه، لكننا كنا أمام سياق يتشكل الآن يرتكز على تحالف مشبوه بين الفساد والرجعية، تمثل السلطة الثقافية ميدانه، وهذه السلطة فى مقابل الحفاظ على الكرسى ليس لديها أى مانع من أن تدعم صبية وموتورين ومغمورين وموظفين يعملون تحت إمرتها لتلويث كل قيمة، والتسخيف من أى معني، وبما يعنى أن إيمان البعض بحرية النقد والتعبير لا يتجاوز الحناجر، أو كاميرات التلفاز فى أحسن تقدير. ولاشك عندى أن تحولا مخزيا قد حدث فى السنوات الأخيرة فى معنى الثقافة من جهة، وفى نظرة المثقف لدوره من جهة ثانية، فالروح الصغيرة المتحالفة مع قطعان من الجهلة والمرتزقة والإرهابيين تشكلت عبر ظروف وسياقات تراجعت فيها فكرة الثقافة ذاتها، وبدلا من أن تصبح بحثا عن عالم أكثر جمالا وإنسانية، أصبحت تقدم القبح وتدافع عنه، بل وترى فى الماضى ملاذا، وأصبحنا أمام نمط جديد من المتثاقفين يمكن أن نطلق عليهم اسم المثقفين الماضويين، المتحالفين مع فكرة دينية بالأساس، يعاونهم صنف آخر من مرتزقة الثقافة، الباحثين عن تسول العطايا، أما المثقف السلطوى الذى يجلس فى مقاعد الرسميين فإنه لا يدخر جهدا فى دعم الصنفين، وتحويلهما إلى مجموعات بلطجة ثقافية للنيل من منتقدى أدائه البائس. إن تشكل بعض مجموعات الغوغاء التى تسعى لإقصاء فكرة المثقف النقدي، يبدو متسقا للغاية مع ما طرحه كارل ماركس من قبل حول استعداد هذه الطبقة لأن تبيع نفسها لمكائد الرجعية، جراء انعدام الوعى الذى تتسم به. إن الإرهاب الذى يمارس ضد المثقف الحر، الأعزل إلا من قلمه ونزاهته، وانتصاره للقيم والمقولات الكبري، ضمن سياق من التشويه الممنهج، يقف ضده منطق الواقع ذاته، حيث يظل المثقف النقدى بعيدا عن أية سلطة؛ لأنه يدرك أهمية أن يبقى خارجها، ومن ثم فهو يعلن موقفه الواضح من تحالف الفساد والرجعية، ومن الأداء غير المسئول لوزارة الثقافة وبعض هيئاتها التى أصبحت بوابة خلفية لمتعهدى اليمين الدينى المتحالف مع الفساد الثقافي. وبعد.. إن الحضور السلبى لوزارة الثقافة وهيئاتها المختلفة الآن يقوض أية بادرة لاسترجاع القوة الناعمة المصرية، واعتبارها قيمة مضافة إلى متن الدولة الوطنية، فى ظل حضور كثيف لداعمى الإرهاب، على نحو ما حدث مؤخرا عندما نشرت الوزارة على أهم مواقعها رسائل الجهاد المسلح لحسن البنا، وبما يعنى أن ثمة إصرارا على التكريس لهذا المأزق الحضارى لأمة منكوبة لا تلبث أن تقوم لتسقط فريسة من جديد لنخاسين وإرهابيين وسماسرة. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله