حين نخلط بين المقال والنص الروائي، ونمارس الفعل ذاته فنتصور أن الراوى الذى هو خلق متخيل من قبل الكاتب هو الروائى نفسه، فإن ثمة جهلا مركبا بماهية الأدب وقيمه الجمالية وقوانينه الداخلية التى يستند إليها، وتكون المحصلة النهائية قمعا للكتابة وحبسا للكتاب، لا لشيء إلا لأن المنطلق كان خاطئا، ولأن الوعى الجمالى لم يزل غائبا، وحينئذ يتحول العدوان على الإبداع والأفكار والكتابة إلى هوس يصبح الخلاص منه صعبا وعسيرا للغاية فى ظل بنية ثقافية وفكرية مهترئة، خارج الزمن والتاريخ. هل يمكن أن يسجن كاتب جراء رواية كتبها؟ أو يسجن باحث بسبب آرائه الفكرية؟ ربما يكشف السؤال عن سوء الحال، فلو طرحناه على أية جماعة بشرية متقدمة لرأت فيه عصفا بإنسانيتها، لكنه للأسف يحدث الآن، ويبدو أننا قد ضقنا ذرعا بمنطق الاختلاف والتنوع، ويبدو أيضا أن القوى الرجعية لم تزل تملك حضورها الفاعل فى المجتمع المصرى على الرغم من ثورتين مجيدتين، كانت إحداهما (ثورة يناير 2011) ابنة لسياق جديد يعرى الاستبداد السياسى ويسائله، والثانية تجابه الفاشية الدينية وتقاومها (ثورة يونيو 2013)، لكن صيغة التحالف بين الفساد والرجعية لم تزل حاضرة، والمناخات الرافضة لحرية الإبداع والبحث والرأى والتعبير تشكل الوسط البيئى الذى تنمو داخله جملة الأفكار الماضوية التى تعد على الناس أنفاسهم، وتحصى على الكتاب والمبدعين الجمل التى كتبوها والعبارات التى خطتها أقلامهم!!. إن الأمم تتقدم حين تؤمن بقيمة المساءلة، وتدرك أن الحرية هى سؤال الإبداع وغايته، وأن إبداعا بلا حرية يعنى كتابة بلا روح، فالنص الأدبى حمال أوجه ودلالات، تتنوع داخله التيمات والأفكار وتتجادل، لتشكل موقفا من العالم، قد يكون احتجاجيا أو مسائلا أو ساخرا أو حاملا قيما أو دافعا إلى السؤال، لكنه يظل دوما ابنا لهذا الفهم المتنوع لجمهرة المتلقين الذين يقرأون النص الأدبى كل حسب ذائقته وخبراته الجمالية ومحصوله المعرفي، ومن ثم تتنوع القراءات للعمل الإبداعى وتتنوع وتمثل كل قراءة زاوية نظر جديدة للنص الأدبي، ونصبح فى نهاية المطاف أمام قراءات مختلفة وزوايا نظر متعددة تكشف وبجلاء عما نسميه فى النقد الأدبى بالمنطق الديمقراطى للنص، هذا المنطق الذى يحضر فى الكتابة إبداعا وتلقيا، ويغيب فى الواقع حين نصادر الإبداع ونحاصره. إن الإبداع ليس حكرا على فهم بعينه، ولا يمكن لأى متخصص يدرك معنى الأدب وماهيته أن يدعى أنه يملك الكلمة الفصل بإزاء عمل أدبي، فالكلمة الأخيرة لم ينطق بها أحد بعد، ولذا فإن المصادرة هى أقسى الطرق وأبعدها عن الصواب فى التعامل مع الإبداع، وهى طريقة قديمة تليق بعالم قديم، وبوعى وخيال بليدين أيضا. إن الواقع الثقافى الرسمى المترهل والمتكيء على تصورات غائمة عن راهن الثقافة المصرية، ناهيك عن مستقبلها، يبدو مسئولا عن جانب من الأزمة، ففقر الخيال لدى القطاعات التى تهيمن على حيز الثقافة الرسمية منذ زمن لم يستطع تحرير الوعى المصرى ولا تنويره بحق، وبدت الثقافة منعزلة عن واقع الناس وحياتهم، بدلا من أن تمثل حالة مجتمعية يتشكل من خلالها العقل العام، وتبلور خطابا متماسكا لصالح قيم التقدم والاستنارة والإبداع، وعلى الدولة المصرية أن تدرك أن الحرية سبيل ضامن للتقدم، وأن الحريات الإبداعية والبحثية والأكاديمية ليست ترفا ولا زخرفا، ولكنها ملامح مركزية تنهض عبرها الأمم وتتقدم. حين اعتبر جون ميلتون أن مصادرة كتاب تماثل قتل إنسان بل أكثر، لم يكن صاحب الفردوس المفقود يدرى أن ثمة مبدعين وباحثين يسجنون بسبب ما كتبوا، وأنه بدلا من أن يوضع النص الأدبى على طاولة التشريح النقدى لاستجلاء جمالياته والكشف عن جوهره، يصبح الحصار والتجريم الأخلاقى بديلا، وبدلا من أن يناقش الباحث على نحو علمي، وتفند الآراء والحجج بطريقة موضوعية يصبح التكفير سلاحا جاهزا للمواجهة. تخسر الأمم كثيرا حين لا تعى أن مستقبلها فى وعيها النافذ بلحظتها الراهنة، وفتحها نوافذ الحرية فى كل مكان، حيث يجب ألا تخش شيئا، بل عليها فقط أن تعمل بجدية على تجديد أدوات العقل العام، وتنوير الوعى وتحريره، وتنمية الذائقة، والاحتفاء بالإبداع الحقيقى وتقديمه، والتكريس للأصوات الطليعية الجديدة فى الثقافة المصرية، والكشف عن أصحاب المشاريع الإبداعية الحقيقية، وتغليب معايير الكفاءة والنزاهة والشفافية على ما عداها، بهذا وحده نتقدم، وبهذا وحده ننهض، وبغير ذلك، سنتحول إلى مجتمعات من الحطام، تقيم لبعضها البعض محاكم تفتيش لا تنتهي، وتصادر بعضها البعض، وتؤسس كل جماعة فرعية داخلها لهويتها الصغرى وتعدها هوية بديلة، فيختفى التناغم العام، والتجانس المشترك الذى يحوى داخله تنوعا خلاقا، وتعددا ثريا لا غنى عنه. وبعد.. حمل الإبداع تاريخا من المعاناة، وتعرض لمحن متعددة، مصادرة وتكفير وقتل، من طه حسين إلى فرج فودة إلى نصر حامد أبوزيد، وغيرهم، إلى مصادرة الأعمال الإبداعية وملاحقة الكتاب، وفى كل مرة نكتشف أن الطريقة المثلى للتعاطى مع الأزمة لم نسلكها بعد، وبات تقييد الحرية شوطا مأسويا فى هذا السياق المعتم، ولذا نحن بحاجة حقيقية الآن إلى إصدار تشريعات حامية لحرية الإبداع والتفكير والبحث العلمى بما يليق بالدولة المصرية وبناسها وبثورتين نبيلتين قدمت فيهما جماهير شعبنا الدماء والشهداء من أجل غد أكثر جمالا وعدلا وحرية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله