«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الأهرام العربى» تحتفل بمرور 125 على ميلاد «العميد».. ماذا تبقى وماذا نحتاج من طه حسين؟
نشر في الأهرام العربي يوم 24 - 11 - 2014


رشا عامر - حسناء الجريسي
كالعادة تمر ذكرى ميلاد طه حسين (14 نوفمبر 1889) فى صمت، فى الوقت الذى يقف على رأس وزارة الثقافة د. جابر عصفور، صاحب الرقم القياسى فى الكتابة عن (التنوير) وتلميذ تلميذة العميد "سهير القلماوي" وكأن القوى الغاشمة التى حطمت تمثالا نصفيا له فى مسقط رأسه بمحافظة المنيا منذ ما يقرب من العام، لا تزال تعمل دون كلل، لكن طه حسين الذى قاوم آفة فقد البصر فى الرابعة من عمره، قادر على مقاومة "آفة النسيان" لتذكرنا سيرته بحجم خيباتنا، فالمدرسة الأولى التى تعلم فيها تلاوة القرآن ومبادئ الحساب والقراءة، أهملناها تماما، حين أغلقنا الكتاتيب، الرئة التى تنفس منها رواد عصر النهضة.
سيرة طه حسين كاشفة للكثير من مآسينا، ومنها أنه غادر الأزهر بعد أربع سنوات من الدراسة به، بسبب ما ساءه من عقم المناهج وأساليب وطرق التدريس، هل تغير الأمر كثيرا؟ وفى الجامعة المصرية التى التحق بها عام 1908 طالبا ثم حائزا على الدكتوراه، ثم أستاذا للتاريخ اليونانى والرومانى، والأدب العربى فيما بعد، فعميدا لكلية الآداب، ظل فى مراوحة بين بقائه فى موقعه، وإبعاده عنه، بسبب دفاعه عن فكرة استقلال الجامعة، أين الجامعات المصرية الآن؟
طه حسين صاحب الدكتوراه الأولى من مصر فى "ذكرى أبى العلاء المعري" والثانية من فرنسا بعنوان "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون" ووزير التعليم فى الحكومة الوفدية عام 1950 لم يصدر كتابا إلا وأثير حوله عاصفة من الجدل، لم تكن معركة "فى الشعر الجاهلي" أولى المعارك التى يخرج منها منتصرا لقيمة العقل وحرية البحث، فعندما نشر "فى ذكرى أبى العلاء" اتهمه أحد أعضاء البرلمان بالخروج عن الدين الحنيف، وعندما أصدر كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر" انبرى سيد قطب للرد عليه بكتاب "نقد مستقبل الثقافة فى مصر" وكتب أنور الجندى "محاكمة فكر طه حسين" قبلهما كان كثيرون يسيرون على خطى الهدم لمشروع العميد، ومنهم مصطفى صادق الرافعى ومحمود شاكر.
وامتدادا لهذه الخطى يسعى محمد عمارة حاليا لترويج قراءة مغلوطة لمشروع طه حسين الحضاري، ويسير فى ركبه "فهمى هويدي" بمقال عنوانه "طه حسين أوابا" إنها "محاولة لاختطاف رمز حقيقي" وفى كل الأحوال لا يزال العميد واقعا بين شقى الرحى، فهو لدى البعض "من أبرز دعاة التنوير" ولدى آخرين "رائد من رواد التغريب" وفى الحالين يظل طه حسين هو المبصر الذى حاول أن يقود قافلة العميان فى الليل المظلم، علها ترى النور.
نحن نحتاج إلى طه حسين أكثر من أى وقت مضى، ولذا فإن "الأهرام العربي" تشعل 125 شمعة فى ذكرى ميلاده، ربما يصل قبس من نوره إلى وزارة الثقافة المصرية وإلى "طيور الظلام".
د. عبد المنعم تليمة يؤكد حاجتنا إلى مشروع العميد: الإسلام السياسى يعود بناإلى الجاهلية التى حاربها
«بعد هزيمة 1967 ذهبت إليه، فقال لى: "مصر لن تهزم أبدا ولن تغيب عن العالم، إنما هى عثرة، وستمر بعثرات أخرى فى المستقبل، إنما أن تهز الهزيمة مصر فهذا محال يا بني" هكذا يتحدث الدكتور عبد المنعم تليمة، الوحيد الذى تتلمذ بشكل مباشر على يد عميد الأدب العربي، ويحمل بيننا خطابه الحقيقى، دون ادعاءات..ويحكى "تليمة" أن العميد ربت على كتفيه، بتلك الكلمات، موضحا أنه تعلم منه الانضباط الشديد والجدية فى العمل، وتقدير قيمة الوقت، من هنا فإن الدكتور "تليمة" يمتلك رؤية استشرافية نقدية حول مستقبل مصر، شأن أستاذه الذى قدم لمصر والعالم العربى بأجياله المختلفة خريطة طريق، كلما عصفت بنا الأزمات نتذكر إضاءاته وإشاراته التى أهملناها.
هل مشروع طه حسين يصلح لتطبيقه فى العصر الراهن؟
نعم يصلح الآن وبعد الآن، هو مشروع لم يستهلك ولم ينفذ ولم يتحقق، إنما تحققت منه أشياء فى حياته، عندما كان مسئولا عن إدارة الثقافة فى الجامعة العربية ورئيس مجمع اللغة العربية وعميدا لكلية الآداب، ووزيرا للمعارف، كل هذه المسئوليات الكبيرة الأكاديمية والوزارية جعلته يتمكن بالفعل من تحقيق أشياء، نحن الأجيال الجديدة من تلاميذ طه حسين نعيش على نهجه حتى الآن ونسعى إلى تحقيق ما تبقى منها، لأن هذا الباقى كبير وصالح فى الوقت الراهن ويمتد إلى مستقبلنا.
وإذا نظرنا إلى التعليم والديمقراطية، فهو صاحب الشعار الباقى الخالد "التعليم كالماء والهواء حق لكل فرد" ويتوهم أناس كثر أن مجانية التعليم حققتها ثورة 23يوليو، التى هى حققت مجانية التعليم الجامعي، أما مجانية التعليم قبل الجامعى فقد حققها طه حسين، وانتزع من الملك فاروق حق التلميذ المصرى فى وجبة غذائية متكاملة، وكان يقول باستمرار أمام الملك: "أنا فقير منحاز إلى الفقراء والتلميذ المصرى لا يمكن أن أبدأ معه الحصة الأولى إلا إذا ضمنت له الوجبة الغذائية" وكان يربط التعليم بالديمقراطية، لكن نحن الآن نسعى لتحقيق جزء من مشروعه، لأننا نرى التكاليف التى يتكبدها كل بيت فى مجالات التعليم، ونسعى لجعل التعليم حقا لكل مواطن، حتى تتحقق العدالة الاجتماعية، فمازالت المعركة دائرة، وكان طه حسين بدايتها، لأنه كان صاحب مناصب رفيعة، ونحن نجتهد لتحقيق الجزء الباقى .
إذن من الذى يجتهد فى سبيل إعلاء مشروع طه حسين الدولة بمؤسساتها الرسمية أم تلاميذه؟
النخبة المثقفة - بما تشكله من جمعيات ثقافية - تؤمن بأفكار طه حسين ويجب أن تكون مؤثرة تضغط على الحكومة بكل ما تستطيع عندما تجد تقصيرا من الجهات الحكومية، فهيئة التدريس تشكل لجنة للضغط على الحكومة لجذبها إلى مشروع طه حسين، إلى جانب أننا على صلة مستمرة بالمستنيرين من رجال الأعمال، الذين شاركوا بملايين الجنيهات فى تمويل منح الماجستير والبحث العلمي، ثم الجهات الدولية الثقافية كمنظمة اليونسكو، التى تحترم طه حسين فهو أول من وقع وثيقة اليونسكو عام 1946 ولذا يعتبرونه من أهم المؤسسين.
لماذا تراجع حال التعليم فى مصر برغم أن طه حسين رسم الخطوط العريضة لمستقبل التعليم فى كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر"؟
هذا بسبب الزيادة الهائلة فى أعداد طالبى العلم، فالشعب المصرى أصبح حريصا على تعليم أبنائه، مقابل سياسات الحكومة الخاطئة فى سير المنظومة التعليمية، الفصول مكتظة بالتلاميذ، مقابل عدم توفير الإمكانات اللازمة للتعليم، وانعدام البعثات، ما جعله ينحدر ويتراجع دوره عن ذى قبل.
ما الركائز التى يستند إليها طه حسين فى مشروعه؟
مشروع طه حسين ينقسم إلى قسمين: الأول علمى يهتم بالتراث العربى والفكر العربى والمستقبل ومناهج البحث، والقسم الثانى تعليمى يتصف بنظرته فى التربية وأفكاره حول أصول التعليم، وبرامجه فى القسم الأول أسس لنا المنهج النقدى التقويمى للتراث ، حرص حسين على الاعتزاز بالتراث لكن مع إعمال العقل، برغم ارتباط أجزاء منه بالظروف الراهنة، ونقيم بناء عليه، يصلح للمستقبل، فى القسم الثانى التعليمى وضع خطة كاملة لإنصاف المعلمين وتحديث المدارس وتزويدها بكل الإمكانات: معامل – مسارح، ثم وضع خطة لانتشار الجامعة فى كل محافظة، وحقق بعثة جامعة إبراهيم باشا (عين شمس الآن) وجامعة الملك فاروق الأول (الإسكندرية) وجامعة محمد على باشا (أسيوط الحالية) وكان بصدد إنشاء إدارات، عندما استكمل مشروع تأسيس جامعة الإسكندرية، انتقل هناك هو وأسرته، وكان أول رئيس للجامعة يزور كل أقاليم مصر بغية إنشاء الجامعات بها، كما كانت له نظرية فى التربية، تقوم على منهج الديمقراطية، والحداثة تعنى إتاحة العلم لكل مواطن، فهو حق دستورى، كما كان يسعى لجعل الجامعات المصرية على غرار أحدث الجامعات فى العالم .
هل مازلنا نعيش أجواء الفتنة الكبرى التى تحدث عنها فى أكثر من كتاب؟
نعيش أخطر منها الآن، عام 1931 كتب طه حسين ثلاثة مجلدات وهى "على هامش السيرة" حيث كتب سيرة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بطريقة عقلانية، ولم يحدث من قبل أن ارتكزت كتابة سيرة الرسول على منهاج عقلي، كما فعل "أرنست رينان" عندما كتب فى القرن 19 حياة المسيح، فارتج المسيحيون فى جميع أنحاء العالم، لأنه خلص سيرته من الغيبيات والغموض، وفعلها طه حسين مع رسول الله، أهدانا حياة النبى مصفاة عقلانية، كما بدأ فى كتابة إسلامياته الكبرى ب "الوعد الحق - مرآة الإسلام - الشيخان - الفتنة الكبرى" هذه الكتب توضح تاريخ الإسلام كله بشكل عقلاني، الآن المتأسلمون والإسلام السياسى يرجع بنا إلى الجاهلية التى حاربها طه حسين، هم يهدمون كل هذا المشروع، ولم ينجحوا، لأن الإسلام أقوى منهم، ومشروع طه حسين فى إعادة كتابة التاريخ الإسلامى قوي، لأن كتبه قامت على أسس علمية موثقة.
باعتبارك مسئول الحوار السنى فى تركيا وجنوب لبنان كيف ترى محاولات أردوغان لإحياء فكرة الخلافة الإسلامية؟
الإسلام دين واحد، ونحن نسعى إلى ديننا بلا مذاهب وبلا فرق، فهو يقوم على الاجتهادات العقلية، أما ما يحدث فى تركيا فهو لا يتماشى مع منهج طه حسين، برغم أنه شعب له منجز حضارى، لكن منذ تولى حزب "العدالة والتنمية" وهو يسير مسيرات معقدة ومنحرفة تاريخيا، أردوغان يريد أن يكون خليفة المسلمين دون انتخاب، فالسياسات الحكومية التركية أصبحت معادية للتقدم العربي.
هل طبقنا مشروع طه حسين؟
أشياء كثيرة منه تم تطبيقها فى حياته، أما ما لم يتم تطبيقه فهو فى كل الأشياء التى تراجعت، منها إهمال وتقصير العاملين على المؤسسة التعليمية، لكن بعد الانتخابات البرلمانية، أعتقد أن الحكومة ستبدأ فى تنفيذ مشروعه النموذجى لاستكمال خارطة الطريق الثالثة.
كيف كان طه حسين يرى مستقبل الثقافة فى مصر؟
كان يرى أن الثقافة المصرية سبقت غيرها من ثقافات الأمم ثم لحق بها نوع من الغموض، ونحن الآن فى عصر النهضة، مستقبل ثقافتنا مرهون بالفكر الحديث ومناهج التعليم المنضبطة.
وماذا عن مشروعه فى النقد الأدبى وهل تم تجاوزه؟
هناك أشياء تعتبر بمثابة أصول مستمرة لا تتجاوز، مثل الشعر الجاهلي، كان يبحث فيه عن ثلاثة أسئلة محددة، الأول من هم العرب؟ لأن التاريخ القديم به غيبيات كثيرة، لذلك هو أراد أن يقدم الأصول الحقيقية للعروبة، وانتهى إلى أنها ثقافة وليست عرقا، أما السؤال الثانى فكان: ما تاريخهم؟ فوجده مليئا بالأساطير والروايات غير الموثقة، فنادى إلى أن يكتب التاريخ العربى الذى تأسس على النقوش والأسس التاريخية والموضوعية لمناهج التاريخ، تاريخ لغتهم قبل القرن 19، كما كان هناك سؤال مهم حول اللغة الأم، وكل هذه الأمور لابد أن تقوم على التحقق التاريخى والعلمى، بحيث نمضى على هذه الأصول فى كل وقت، كما كان منهجه قائما على النصوص القديمة، فكان يرى النقد "سباحة ممتعة فى بستان جميل" نحن تجاوزنا هذه الأمور فى أن أبحاثنا النقدية فى المعامل الآن تستعين بالإحصاء.
هل هناك جوانب شخصية فى حياة العميد لا نعرفها؟
فى حياته الشخصية جانبان أساسيان: الأول أنه ابن بلد والثانى أنه باشا رفيع المستوي، كنا نداعبه فى جانب ابن البلد، ودائما نسأله ماذا تحب أن تسمع من أغان؟ يقول: "أغانى الأفراح الشعبية، مثل قطر الندي" وكان يقول إن محمد عبد الوهاب كان يذهب إلى الإذاعة أيام الثلاثاء التى أسجل فيها حديث يوم الخميس، كنت أسمع الذى سجله وهو يستمع إلى ما سجلته، وكنا نلتقى يوم الثلاثاء فى بيت مى زيادة أنا ومحمد عبد الوهاب، إضافة إلى عباس العقاد وأحمد لطفى السيد وسلامة موسى، وعندما كنا نسأله ماذا تقرأ؟ كان يقول: القصص الشعبى وسيرة الظاهر بيبرس.
أما جانب الباشا رفيع المستوى، ففى التاسعة مساء كان يخلو إلى زوجته، يتناولان العشاء، ثم يخلو ليستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية إلى أن ينام، كانت حياته قائمة على الانضباط والجدية الشديدة، عندما كان عمره 84 عاما، كان يستيقظ فى الصباح الباكر، فى التاسعة صباحا يقرأ عليه سكرتيره فريد شحاتة كتب التراث العربى القديم، ومن الخامسة إلى الثامنة بعد الظهر تقرأ له آمال فريد - رئيس قسم اللغة الفرنسية - المناهج الحديثة بأوروبا، كان يحدد لنا ربع ساعة للجلوس معه، وفى تلك الأثناء كانت تدخل عليه زوجته سوزان بفنجان القهوة، وتشعل له السيجارة، كانت إجازته السنوية مقدسة، أى أنه لابد من السفر خارج مصر أثناء العطلة.
ما الذى تعلمته منه؟
أولا: اقتران العلم بالوطنية، وأن العلم لا وطن له، لكن للعالم وطناً، تعلمت منه الانضباط الشديد فى جدولة الزمن، كل دقيقة لها قيمة، كذلك العقلانية وضرورة قبول الآخر، مهما اختلفنا معه فى الرأي، ولابد من الحوار معه، كان يردد علينا ما كان يردده أحمد لطفى السيد: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معا فعليك بالعلم".
هل الدولة مقصرة فى حقه من وجهة نظرك؟
نعم... نعم، لا تلفت الدولة إلى تخليده بالشكل الذى يستحقه، الكل مقصر وغافل، الجامعات ووزارة الثقافة ومجمع اللغة العربية والأزهر كلها جهات مقصرة فى حق طه حسين.
ما مقترحاتك للشكل الذى يجب أن يكرم به طه حسين؟
على الدولة أن تقوم بعمل يوم للاحتفال الشعبي، يكاد يكون مهرجانا شعبيا برعاية الدولة ومجلس الوزراء، تباع فيه كل مؤلفاته بسعر رمزى، الصحف تكتب عنه والبرامج الإذاعية تتحدث عن منهجه والتليفزيون يعرض أعماله.
سؤال افتراضى لو كان طه حسين موجودا فى الوقت الراهن ما الذى كان عليه أن يفعله؟
لأنه كان عالى الهمة، ونشيطا وصاحب فكر مسئول، كان سيتصدى لقيادة حركة ثقافية متوهجة مستقبلية للنهوض بمصر.
هل همس فى أذنك يوما بأشياء تخص مستقبل مصر؟
بعد هزيمة 1967 ذهبت إليه، فقال لي: "مصر لن تهزم أبدا ولن تغيب عن العالم، إنما هى عثرة وستمر بعثرات أخرى فى المستقبل إنما أن تهز الهزيمة مصر فهذا محال يا بنى " وربت على كتفى.
إسلاميون يحاولون إخراجه من حيز الثقافة الطليعية..د. يسرى عبد الله: العدوان الفكرى على طه حسين مستمر
مشروع «طه حسين» عابر للأجيال، فمن لم يتتلمذ على يديه مباشرة، قرأ كتبه، فتشكل من خلالها عقله ووجدانه، ومن هؤلاء الناقد والأكاديمي «يسري عبد الله» الذي انفتح على مشروع عميد الأدب العربي، في روافده المتنوعة، من الإبداع إلى الدرس الأدبي إلى علم الاجتماع إلى التاريخ، وفي القلب منها الإسلاميات.
الدكتور يسري عبد الله أفزعه أن يختطف بعض الإسلاميين «طه حسين» ويتعسفوا في قراءته، ليصلوا إلى خلاصات هو أبعد ما يكون عنها، ليهدموا بذلك المشروع الحضاري الخلاق، الذي وضعه «طه حسين» للأجيال المقبلة.
«الأهرام العربي» أجرت هذا الحوار مع الدكتور يسري عبد الله فإلى التفاصيل.
كتبت مقالا في الأهرام عنوانه «أسلمة طه حسين» وهو يرد على قراءة محمد عمارة المغلوطة لتراث العميد، وتهليل فهمي هويدي له، أنت ترى أن تلك المحاولات تمثل اختطافا لرمز حقيقي، ما الذي يغري هؤلاء في مشروع طه حسين حتى يرتكبوا جريمة الاختطاف؟
مشروع طه حسين منفتح على أفق تنويري بالأساس، يسعى لتحرير الوعي المصري، وصبغه بطابع أكثر حداثة، وهو ينظر للثقافة بوصفها حالة مجتمعية، تؤسس لسياق جديد، وهذا ما يرفضه الإسلاميون تماما، ويقفون حجر عثرة أمامه، وكتاب الدكتور عمارة محاولة لاختطاف طه حسين الرمز التنويري، وصبغه بطابع أحادي، وكأننا أمام محاولة ل «خندقة» طه حسين في سياق محدد يرتضيه الإسلاميون، وكل أصحاب الرؤى الجزئية، فكتاب عمارة يحوي تقسيما تعسفيا للمراحل الفكرية التي مر بها طه حسين، ويتعامل بطريقة اختزالية ومبتورة مع الرائد الكبير، ومن ثم لا يمكن قبول حالة العدوان الفكري على طه حسين، ومحاولة إخراجه من حيز الثقافة الطليعية التي يعد أحد أبرز مؤسسيها إلى خانة المفكر «الأواب» الذي يتراجع عن آرائه التقدمية حتى يتحول إلى رجل «أواب» في عرف مفكري الإسلام السياسي وتنظيراتهم الميتافيزيقية.
هل في مشروع طه حسين خصوصا الذي عمل فيه على التاريخ الإسلامي ما يدفع هؤلاء لأسلمته، ولأن يكتب هويدي «طه حسين أوابا»؟
لطه حسين كتابات مهمة في» الإسلاميات»، ويأتي على رأسها مؤلفه «الفتنة الكبرى» وكتبه المختلفة مثل:»على هامش السيرة» و»الوعد الحق» وجميعها لا تتعاطى مع الشخوص بقداسة، ولا تمنح التاريخ صكا دائما بالنقاء، وهذا في رأيي ما يمنح كتبه تلك حضورا خاصا في هذا السياق، فطه حسين ليس عقلا تسليميا يقينيا، لكنه ابن للشك الديكارتي بامتياز، وابن للحقيقة العلمية، والحقيقة العلمية لا تعرف اليقين الزائف، ولا تعرف القداسة المدعاة أيضا.
ما الذي يتبقى من هذا المشروع متعدد الوجوه؟
طه حسين مشروع للأمة المصرية ولثقافتها الطليعية، وهو ابن لرؤية كلية للعالم، ومن ثم فالنظر الدقيق لطه حسين يجب ألا يتمثل فى الصيغة الجزئية، التي تسعى لاختزاله في سياق دون الآخر، لكن القارئ النموذجي لمشروع طه حسين يراه كلا متصلا، ومناط الجدارة فيه أنه ابن لهذا التنوع الخلاق، وابن أيضا لهذه الروح التي لم تغادره قط، وأعني روح العلم النسبية التي لا تعرف الثبات أو السكون، ولا تعرف سوى المجاوزة والتخطي.
والحق أن مشروع طه حسين الفكري يتبقى منه الكثير، وسيبقى لا جدال كتابه «فى الشعر الجاهلي» حاملا روح الباحث صاحب العقل الشاك المتسائل دائما، وسيبقى»مستقبل الثقافة في مصر» تعبيرا عن روح المثقف العضوي المنفعل بواقعه، والمشتبك مع قضايا مجتمعه، والساعي لعالم أكثر حرية وجمالا وإنسانية، وتبقى مقالاته في «حديث الأربعاء» تعبيرا جماليا عن ناقد حصيف يقرأ القديم وفق منطق جديد ومغاير، هذا الحس الاستشرافي الذي لازم طه حسين.
هل كانت كتاباته الإبداعية امتدادا لمشروعه الفكري؟
هنا نذكر نصوصه الفاتنة:»دعاء الكروان، أديب، الحب الضائع» وسيرته اللافتة» الأيام»، وغيرها، وربما يصبح مناط الجدارة في رواية «دعاء الكروان» قدرتها اللافتة والمبكرة على تعرية المجتمعات المغلقة والاصطدام مع موروثاتها التقليدية، بما يعني أن المشروع الأدبي لطه حسين لم يكن منفصلا عن مشروعه الفكري بل كان امتدادا له، وضربا من الانحياز العارم لكل المقولات الكبرى التي دشن لها في مسيرته الفكرية، التي يعد أبرزها الانتصار لتلك الجدارة الإنسانية، ف»هنادي» ضحية حبها وموروثها القاسي وخيانة الطبقة البرجوازية الممثلة في مهندس الري، وآمنة تحيا حالا ممزقة بين الرغبة والثأر، بين الحب والانتقام في صراع كلاسيكي شهير، وفى «الحب الضائع» يبدو طه حسين أكثر جسارة في طرح روائي يستند على تيمة جوهرية فى السرد والحياة، وهي الحب، فيكسر التابوهات غير معني سوى بنصه وانحيازاته الإنسانية والجمالية.
هل نحن في حاجة إليه الآن؟
نحن بحاجة ماسة لاستعادة طه حسين، لأن ذلك يعني استعادة لقيم الثقافة الوطنية المصرية، وتعبيرا بليغا عن إعادة الاعتبار لرمزية الكفيف الذي علم المبصرين، ومنحهم زوايا نظر جديدة في رؤية الحياة والعالم والأشياء، إن إرث طه حسين قابل للنماء، وهو إرث من العقل الخالص، المسكون بروح مصرية تعرف امتدادها الحضاري جيدا، وتدرك الطبقات المعرفية والتاريخية التي شكلت الأمة المصرية وخلقت هذه الروح الوثابة المتجددة.
يتحدث الجميع الآن عن أزمة التعليم وانهياره وقد عالج طه حسين الأمر في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» هل مازال خطابه صالحا لمعالجة أزمات عصرنا؟
صنع طه حسين ل «مستقبل الثقافة فى مصر» حلولا إجرائية لمشكلات التعليم المصري، ولم يكتف بتنظيرات عن فلسفة التعليم وحتميته فحسب، بل وجدنا إدراكا لحتمية التعليم الأولي، وجعله ركنا أساسيا من أركان الديمقراطية، كما أشار إلى مشكلات التعليم العام، وازدحام المدارس بالتلاميذ «كثافة الفصول» وطرح تصورات ذات طابع عملي أجملها في ثلاث نقاط مفصلية: الأولى إنشاء المجلس الأعلى للتعليم وتوليه جميع شئون التعليم والمعلمين معا، متمتعا بسلطة غير منتقصة، مع تعدد الإشارات التي تنص على حتمية الحفاظ على كرامة المعلم، أما النقطة الثانية فتتمثل في إعادة تنظيم إدارات التعليم، والتي كانت تسمى»مراقبات التعليم» وصولا إلى النقطة الثالثة وتتعلق بإصلاح التفتيش، ولا شك أن هذه الأفكار تعد أساسا لإصلاح حقيقي لبنية التعليم المصري، مع الوضع في الاعتبار جميع المستجدات الراهنة، وحتمية التغيير الجذري لهيكل التعليم القائم، وربطه بذلك « الآن وهنا».
حوى الكتاب أيضا إشارات مهمة إلى فلسفة التعليم العالي وجدواه، وتكريسا لمقولات استقلال الجامعة، بحثيا وماليا، وامتلاكها الثروة، وأعتقد أن ما يتعلق بالجامعة تحديدا لا يزال قائما، وبحاجة ماسة لاستلهام أفكار طه حسين بشأنه، خصوصا أن طه حسين دفع ثمنا من قبل لمواقفه الأكاديمية المشرفة، حينما رفض حصول بعض ذوي الحظوة على الدرجات العلمية من الجامعة دون بحث، وعلى سبيل التكريم، لمجرد شهرتهم، وقد أبعد عن الجامعة آنذاك وتضامن معه آخرون من بينهم أحمد لطفي السيد.
حاليا يشهد العالم العربي صراعات مذهبية، خصوصا بين السنة والشيعة هل قراءة «الفتنة الكبرى» لطه حسين تجعلنا نقول وكأنه كتب الآن؟
هذا كتاب مهم ضمن كتبه، لأنه لا ينطلق من تصورات سابقة التجهيز، ولا يتعامل مع الأشخاص بوصفهم ملائكة لا يخطئون، ومن ثم اكتسب أهميته، والإحالات إلى اللحظة الراهنة مفزعة للغاية، فالصراعات المذهبية ضد الفكرة الإنسانية، وهي بنت عالم قديم ورجعي، وهي أيضا تعبر عن صراعات سياسية وطبقية تأخذ هذه الأشكال الطائفية البغيضة، والتي تجد دعما لها من قبل قوى الاستعمار الجديد في دعمه للرجعية وتنويعاتها المختلفة.
فيما يخص كتابة السيرة الذاتية هل استطاع أحد أن يتجاوز طه حسين في هذا النوع الأدبي بمعنى أن تضع سيرته بجوار سيرة طه حسين؟
تعد»الأيام» من أعذب السير الذاتية وأكثرها تعبيرا عن امتزاج الخاص بالعام، فالهموم والأحلام والإخفاقات الشخصية، ولحظات البهجة والانكسار حاضرة بقوة داخلها، ومرتبطة بسياق عام مأزوم، ودائم التحول، وطه حسين هو واسطة العقد هنا، ومركز الحكي ومتنه في آن، لكن لا شك أن ثمة سيرا ذاتية كثيرة كتبت فيما بعد وكانت على درجة من الحضور والاختلاف، خصوصا أن كتابة السيرة الذاتية كون منفتح على تجارب بالغة الخصوصية لأصحابها بتنويعاتهم المختلفة، والمتعددة.
هل أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» عطلت حركة تطوير مناهج النقد الأدبي لدينا؟
مثلت أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» تعبيرا دامغا عن سطوة القوى الرجعية ومعاداتها لكل جديد، بزعم الحفاظ الوهمي على ثوابت الأمة ومقدساتها وهي جمل جوفاء تشبه الرطان الفارغ، تنطلق من تصورات مغلقة وشوفينية، حيث يرى البعض أنهم أوصياء على البشر ووكلاء جدد للسماء، وكتاب طه حسين أسهم في تعرية هؤلاء جميعهم، وكشف أيضا عن أن ثمة وعيا راقيا لم يزل موجودا، كشفت عنه المذكرة البليغة التي قدمها السيد محمد نور ممثل النيابة دفاعا عن الكتاب، وأعتقد أن أجيال النقاد الحقيقيين التي تلت طه حسين مثل محمد مندور ولويس عوض وشكري عياد وغيرهم، قد خبروا معنى الحرية جيدا، ولم تكن هذه الأزمة سوى حافز للمزيد من الحفر النقدي ابن الروح العلمية التي لا تخشى تربص الجهلة والمزيفين.
هل أثرت تلك الأزمة العاصفة في مشروع طه حسين بمعنى أنها جعلته أكثر مراعاة للذوق العام فيما ظهر له من كتب بعد ذلك؟
هذه الأزمة جعلت طه حسين أكثر استبصارا بخطر القوى الرجعية على العقل المصري والعربي، ولذا كان كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» بعدها بحوالي عشر سنوات تقريبا، وهو كتاب يسعى ضمن ما يسعى إلى ربط العقل المصري بالعقل الأوروبي، والذهنية الغربية في انفتاحها وتجددها الخلاق.
ما تقييمك لطه حسين ناقدا على ضوء المناهج النقدية الحديثة؟
أنظر لطه حسين شأن نظرتي لكل النقاد الرواد ضمن سياقهم الزمني والتاريخي، حتى يمكن أن نراهم على نحو موضوعي لا بخس فيه لأقدارهم ولا تهويل، وطه حسين ناقد حصيف قرأ الأدب القديم في «حديث الأربعاء» بعين جديدة ومختلفة، وتعامل في مقالاته النقدية مع الشعر الجاهلي بروح العصر وتجلياته المختلفة، وفضلا عن تكوينه المعرفي الرصين فهو يتسم بموهبة استثنائية، وهذه مسألة بالغة الأهمية لأي ناقد حقيقي، ولا شك أن المناهج النقدية قد تجاوزت طه حسن وزمنه وعصره بكثير، وهذا طبيعي، لأن العلم سيل لا ينقطع من المعرفة والتراكم.
ما تفسيرك لعودة كبار مفكري عصر النهضة للكتابة في الإسلاميات مثل العقاد وهيكل وطه حسين وغيرهم؟
هؤلاء المثقفون كانوا من بقايا ما يعرف ب»عصر التأليف الموسوعي» ومن ثم فهم قد ألفوا في سياقات مختلفة، وضربوا بسهم في فروع شتى من فروع المعرفة.
هل يمثل ذلك ردة على أفكارهم؟
لا أراه ردة على أفكارهم، قدر ما أراه كشفا عن التنويعات المختلفة الحاضرة في مشروعهم مترامي الأطراف، ومتعدد الوجود، لكن هناك دائما ما يسمى بالبنية العميقة داخل كتابات كل مفكر، والبنية العميقة قولا واحدا في كتابات طه حسين كانت منحازة بلا مواربة ولا مراوغة إلى قيم التقدم والاستنارة والحداثة والإبداع.
تعاطي وزارة الثقافة مع مشروع طه حسين التنويري هل استطاع جابر عصفور أن يتمثل هذا الخطاب في عمله وزيرا؟
للأسف جابر عصفور أبعد ما يكون عن إرث طه حسين الفكري وموقفه المستقل، فالوزير جابر عصفور كان من بين أول قراراته دعوة ثمانين داعية من وزارة الأوقاف للحديث عن الاستنارة والدولة المدنية! في مفارقة عبثية، وكأن الوزير التنويري يأتي لإعادة إنتاج العقل المحافظ، أيضا طه حسين صاحب موقف مستقل وقد دفع أثمانا باهظة لذلك، أما الوزير فكان من بين رموز ثقافة مبارك، وتولى الوزارة من قبل ودماء الشهداء كانت تملأ شوارعنا المصرية في حكومة الفريق أحمد شفيق، وحينما استقال قال ساعتها إن الاستقالة لأسباب صحية! ولم يخرج على الناس وقتها ليعلن رفضه للنظام الذي خرج الناس عليه، أضف إلى ذلك أن الوزير عصفور لم نشهد له مواقف راديكالية في سنة حكم الإخوان الفاشيين لرفض حكم المرشد، وجماعته الرجعية.
انتقد دستور 23 الذى تتباكى عليه النخبة المصرية.. عميد الأدب العربى يدق أجراس الخطر «من بعيد»
أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة طباعة كتاب "من بعيد" لعميد الأدب العربى د. طه حسين، ومن يقرأ هذا الكتاب يكتشف أنه معد لزماننا، بل إن ما جرؤ العميد على انتقاده آنذاك، لم يكن لأحد فى هذا الزمان أن يقترب منه، ممالأة لمجتمع يسير نحو الهاوية، كان طه حسين إذن مثقفا عضويا على حق، غير منفصل عن قضايا مجتمعه.
هذا كتاب كتب لنا ولزماننا، للمصريين تحديدا، حين كانوا يتجرعون مرارة دستور تعمل مواده ضد ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، دستور وضعته "جماعة الإخوان" بليل، وشكلت جمعيته التأسيسية على نحو إقصائي، دستور مشوه ملىء بالعوار، لا يلبى الحقوق الدنيا لإنسان يعيش فى القرن الحادى والعشرين، قام هذا الإنسان بثورة ضد الفساد والقهر والظلم، وطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية والعيش بكرامة إنسانية.
الكتاب عبارة عن فصول متفرقة كتبها العميد "من بعيد" فى المكان والزمان أيضا، فأغلبها كتب فى باريس، وبعضها فى فيينا، وقليلها فى القاهرة، وأقدم هذه الفصول عهدا كتب سنة 1923، وأحدثها كتب سنة 1930، وبهذا المعنى جاء الكتاب "من بعيد" فى المكان والزمان.
هل لهذه الأماكن المتباعدة آثار فى الكتابة؟ يوضح طه حسين أنك "إذا قرأت هذه الفصول وما يشبهها، فستتبين فى غير شك أن النأى عن الدار والتنقل فى أقطار الغربة، يثيران فى نفس الكاتب من العواطف والخواطر ما لا تثيره الإقامة والاستقرار، ومما يهيئان الكاتب تهيئة خاصة للشعور والحس، للتفكير والتعبير، لا تستقيم له حين يكون مقيما مستقرا فى داره بين أهله ومواطنيه يرى فى كل يوم مثل ما كان يراه من قبل، لا تكاد تختلف الظروف التى تحيط به إلا اختلافا يسيرا بطيئا لا يكاد يحس، فليس من شك إذن فى أن لبعد المكان أثرا فى إعداد الكاتب للكتابة فنيا خاصا، غير هذا الأثر الظاهر الذى يراه الناس حين يقرأون ما يكتبه المسافر عما يرى ويشهد من الأقطار".
لقارئ سوف يأتى
كأن طه حسين كان يكتب مقدمة كتابه لقارئ سيأتى بعد سنوات، ليدرك أن مصر لا تتحرك إلى الأمام، بل إنها ترتد إلى أسوأ ما فيها، ففى المقدمة التى كتبت فى يونيو 1935 يقول طه حسين: إن "قليلا من التفكير يدل على أن من الخير أن نعود بين حين وحين إلى ما كنا نكتبه فى الأعوام التى مضت، وبعُد بها العهد لنرى كيف كنا نكتب وكيف كنا نحس ونشعر ونفكر، وكيف أصبحنا نحس ونشعر ونفكر، وكيف أصبحنا نرى الناس والأشياء، لنتبين فى جملة موجزة مقدار ما أدركنا من تطور الحس والشعور والتفكير والتعبير أيضا".
وحين أعاد طه حسين قراءة ما كتبه بعد سنوات توصل إلى التالى: "لست أخفى عليك أنى قد قرأت هذه الفصول التى كتبتها كلها أثناء ثمانية أعوام، ومضى بينى وبين آخرها أكثر من خمسة أعوام، فى شىء من الحنان إلى تلك العهود، التى كنا نشكو فيها المشقة والجهد، ونضيق فيها بالحياة والأحياء، ثم أصبحنا الآن نود لو تعود إلينا أو لو نعود إليها، لا ليعود إلينا معها الشباب، بل لتعود إلينا معها حياة هى من غير شك خير من الحياة التى نحياها الآن".
كيف كانت تلك الحياة التى يحن إليها طه حسين؟ هو يقول: "كنا فى تلك العهود أحرارًا نفكر ونقول، كما نريد أن نفكر ونقول، كنا نلقى ألوانا من المقاومة فلا تزيدنا إلا طموحا إلى الحرية وإمعانا فيها، وكنا ننظر إلى الجهاد فى سبيل الرأى وحرية الرأى على أنه حاجة من حاجات الحياة وضرورة من ضرورات الوجود الحر، فأين نحن من هذا الآن؟"يواصل طه حسين: "كنا نشكو أحيانا ظلم الحكومات وجنوحها إلى الاستبداد ونصرها للجمود، ولكنا كنا نجد الشعب دائما مواتيا لنا، يمنحنا نصره ووده وعطفه وتأييده، أما الآن فقد اشتد عنف السلطان وأسرف فى الشدة، حتى اضطر الكُتاب والخطباء إلى أن يفكروا ويقدروا ويطيلوا التفكير والتقدير قبل أن يكتبوا أو يقولوا، وقد وجد الاستبداد الرسمى المتصل لنفسه أنصارا وأعوانا من طبقات الشعب لم يكن ليظفر بهم من قبل"..هكذا كان طه حسين يفكر ويقول وينتصر لحرية الرأى والتعبير، لم تمنعه المعركة التى خاضها فى سبيل حرية البحث، وما طاله من سهام طائشة من جرائها، حين كتب كتابه الشهير "فى الشعر الجاهلي" من الانتصار لقيمة الحرية والدفاع عنها، لكن زمنا آخر أتى، يعيشه المصريون حاليا، فى هذا الزمن اقتلع مجهولون تمثال العميد من فوق قاعدة يستريح عليها فى أحد ميادين محافظة المنيا مسقط رأسه.
المادة 149
هذا الزمن البعيد الذى يشكو منه طه حسين لم يمنعه من أن ينتقد بعنف المادة 149 من دستور 1923 التى نصت على أن "الإسلام دين الدولة" فكتب دراسة ضمنها أحد فصول هذا الكتاب، وكان قد سبق نشرها فى فبراير 1927، وحين ننظر فى مواد دستور 1923 ندرك أين نقف الآن؟
كانت المادة رقم 1 من دستور 1923 تنص على أن "مصر دولة ذات سيادة وهى حرة مستقلة" وتنص المادة رقم 3 على أن "المصريين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين" كما نصت المادة رقم 4 على أن "الحرية الشخصية مكفولة" والمادة رقم 12 نصت على أن "حرية الاعتقاد مطلقة"..وفيما يخص الصحافة بالتحديد، فإن المادة 15 من دستور 1923 كانت تنص على أن "الصحافة حرة فى حدود القانون والرقابة محظورة على الصحف، وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور" الآن نشهد ونعايش حركات بهلوانية للذهاب بالصحافة إلى طرق وعرة، وأماكن خطرة تؤثر على حرية الرأى والتعبير، وتضيق الخناق على حرية النشر فى الصحف، هذه الحركات الأكروباتية تتخذ عناوين مختلفة، فمرة تكون غرفة صناعة الصحف، ومرة تحديد منظومة تقيد النشر بابتكار مدونة إعلامية جديدة، تعود بنا إلى الوراء سنوات..هذا الدستور الذى لم ينقطع الحديث، ونحن نقطع العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، واجهه طه حسين وتيار الليبرالية المصرية بشراسة، فقد كتب العميد: "لست أرضى عن هذا الدستور الرضا كله، ففيه نقص وفيه تشويه وفيه نصوص لا بد من تغييرها" ثم هاجم الذين صاغوا مواد الدستور هجوما عنيفا بسبب المادة التى نصت على أن "الإسلام دين الدولة"، ووجهة نظره أن هذه المادة ستكون "مصدر فرقة لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين فقط، وإنما نقول إنها مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموا (الإسلام) على وجه واحد، وأن النص على دين للدولة يتناقض مع حرية الاعتقاد، لأن معنى ذلك أن الدولة مكلفة بأن تمحو حرية الرأى محوا فى كل ما من شأنه أن يمس الإسلام من قريب أو من بعيد، سواء صدر ذلك عن مسلم أم غير مسلم، ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة بحكم الدستور أن تسمع ما يقوله الشيوخ فى هذا الباب، فإذا أعلن أحد رأيا أو ألّف كتابا أو نشر فصلا أو اتخذ رأيا، ورأى الشيوخ فى هذا مخالفة للدين ونبهوا الحكومة إلى ذلك، فعلى الحكومة، بحكم الدستور، أن تسمع لهم، وتعاقب من يخالف الدين أو يمسه".
ثقافة العصور الوسطى
كتب طه حسين ما كتبه فى زمن طلب فيه البعض ألا يصدر دستور، لأن المسلمين ليسوا فى حاجة إلى دستور وضعى، ومعهم كتاب الله وسنة رسوله، بل طلب بعضهم من لجنة وضع الدستور أن ينص على أن "المسلم لا يكلف بالقيام بالواجبات الوطنية، إذا كانت هذه الواجبات معارضة للإسلام" وفسروا ذلك بأن "المسلم يجب أن يكون فى حل من رفض الخدمة العسكرية، حين يكلف بالوقوف فى وجه أمة مسلمة، كالأمة التركية مثلا" وفى مظاهرة شهيرة أمام وزارة الدفاع وقف أحد عتاة الإرهاب والتكفير، وخلفه شيعته، يهتفون لا نريد دستورا..يؤكد الكاتب طلعت رضوان فى تقديمه للكتاب "أن النقد الذى وجهه طه حسين لدستور 1923 هو جزء من المشروع الثقافى لتيار الليبرالية المصرية قبل يوليو 1952، إذ إنهم امتلكوا شجاعة الإعلان عن آرائهم بوضوح، تلك الآراء التى يمكن تلخيصها فى جملة واحدة: "إنه لا يمكن خروج مصر من ثقافة ومن آليات العصور الوسطى إلا بعد تأسيس دعائم الدولة العصرية، وأولى هذه الدعائم ضرورة فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية، وأن الدولة يجب أن تكون محايدة مع مواطنيها، وأن هذا الحياد هو الضمانة الحقيقية لتطبيق قواعد العدالة على جميع أبناء الوطن، بغض النظر عن ولاءاتهم الدينية، وفى ضوء هذا الفهم لمعنى الدساتير كان طه حسين يدق أجراس الخطر من خطورة النص فى الدستور على دين معين للدولة".
وتحت عنوان "بين العلم والدين" يناقش طه حسين العلاقة بين العلم والدين، وهل هناك خصومة بينهما أم لا، ويتساءل: هل كتب على الإنسانية أن تشقى بالعلم والدين أم كتب عليها أن تسعد بالعلم والدين؟
يقول: أما نحن فنعتقد أن الإنسانية تستطيع أن تسعد بالعلم والدين معا، وأنها ملزمة إذا لم تستطع أن تسعد بهما أن تجتهد فى ألا تشقى بهما، وسبل ذلك واضحة عندنا وهى أن ينزع السلاح، كما يقولون، من يد العلم والدين، أو قل سبيل ذلك أن ترغم السياسة على أن تقف موقف الحيدة بين هذين الخصمين، فالعلم فى نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، والدين فى نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، لكن السياسة تريد وتستطيع الأذى غالبا، وهى كما قلت تتخذ العلم حينا وسيلة هذا الأذى، وتتخذ الدين حينا وسيلة إليه" ثم يشرح د. طه حسين كيف أن السياسيين يستغلون رجال الدين ورجال العلم، ويشترون ضمائرهم.
وكما يقول طلعت رضوان فى مقدمة الكتاب ف "هذا هو طه حسين فى واحد من كتبه المهمة، وبرغم ذلك لا يزال كثيرون يهاجمونه بأسلوب إنشائى أيديولوجى، بعيدا تماما عن لغة طه حسين، هو نور من عصر التنوير، هو الأعمى الذى أنار طريق المبصرين، وإذا كان طه حسين سيظل دوما رهن الاستدعاء والهجوم عليه حيا وميتا، على حد قول د. على شلش، فإن الليبراليين المدافعين عن الدولة العصرية، الرافضين العودة إلى عصر الكهوف، سوف يرددون صياغة الشاعر نزار قبانى، وهو يخاطب عميد الثقافة العربية: "ارم نظارتيك.. ما أنت بأعمى.. إنما نحن جوقة العميان".
وصفوه بأنه كوكتو الشرق ومارتن لوثر الإسلام.. ساحر الثقافة الفرنسية
برغم أنه من المؤكد أن عميد الأدب العربى طه حسين تأثر بالثقافة الفرنسية والأدب الفرنسي، إذ بدأ نبوغه الأدبى بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة السوربون بباريس عام 1919 عن أطروحته "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون"، والتى أشرف عليها عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسى الكبير إميل دوركايم، فإن طه حسين أثر أيضا فى الثقافة الفرنسية. وتكشف الرحلة الفكرية له عن هذا التناغم بين الحضارتين العربية والفرنسية، إذ سخر قلمه لخدمة هذا الحوار بينهما.
عكف طه حسين على تقديم العديد من الدراسات لإبراز الصلات العميقة بين الحضارتين، وعمد فى سبيل ذلك إلى ترجمة العديد من الكتب الأدبية والفكرية، خصوصا فيما يتعلق بتاريخ فرنسا الفكرى القديم، وذلك لاستدعاء الأفكار والأساليب المبتكرة لتنشيط الفكر العربى فى هذا الوقت وقد ساعدت ترجمة كتبه إلى الفرنسية، وكذلك الدراسات التى كتبها بهذه اللغة مباشرة إلى ارتباط القارئ الفرنسى بالثقافة العربية الإسلامية مباشرة. كما ساعدت الصداقة التى جمعته مع العديد من المثقفين الفرنسيين إلى مضاعفة فرص النجاح الحقيقى التى أثمر عنها التعاون الثقافى بين فرنسا والعالم العربى والتى استفاد منها كلا الطرفين.
بعد السحر الذى يشع من مصر والذى ألهم العديد من المفكرين الفرنسيين للقيام بالعديد من الأبحاث وتركيز كل منهم على جانب معين، فإنه على الجانب الآخر لم تكن هناك دراسات تتناول جاذبية فرنسا تأثيرها على المثقفين المصريين إلى أن جاء طه حسين.
فهذا الكاتب الذى ارتبط بفرنسا جذب الانتباه للعديد من محاور هذه الثقافة. فرغم إصابته بالعمى فى سن ثلاث سنوات بسبب الجهل والإهمال فإنه حفظ القرآن الكريم كاملا فى سن التاسعة واستطاع الحصول على الدكتوراه مرتين فى سن صغيرة جدا بعد إتمامه دراسته بالأزهر. وقد ميز نفسه طوال حياته بالشجاعة والديناميكية برغم المشاكل العديدة التى عانى منها بسبب طبيعته الخاصة ومزاجه المتمرد وكتاباته الإصلاحية، فإنه نشر أكثر من سبعين كتابا فى مختلف المجالات مثل الرواية الفكرية والنقد الأدبى والتاربخ والسيرة الذاتية.
وقد بدأ أول اكتشاف له للحضارة الفرنسية متأخرا نوعا ما إذ أنه جاءه فى عمر التاسعة عشرة عندما اختار اللغة الفرنسية كلغة أجنبية وأخذ دورات لغوية على يد لوى ماسينيون فى جامعة القاهرة. ولكن يبدأ ولاؤه الحقيقى لفرنسا بحضارتها وثقافتها عندما سافر إليها لاستكمال دراسته فيها فى نوفمبر 1914 تحديدا فى مدينة مونبيليه والتى كانت بمنأى تام عن نيران الحرب العالمية الثانية، وقد ذهب طه حسين مع بعثة من الجامعة، حيث استقر هناك لمدة أحد عشر شهرا، لكنه عاد برفقة زملائه فى 1915 بسبب الأزمة المالية. لكن هذا لم يمنعه من الاستفادة من طرق تدريس أساتذته الأجانب فى جامعة القاهرة والتى كان يتمنى لها الإصلاح السريع بعد النقد اللاذع الذى وجهه لها والتى تسببت فى تعنت أحد أساتذته ضده وحرمانه من العودة مرة أخرى إلى باريس لاستكمال دراسته هناك لولا تدخل علوى باشا الذى أتاح له فرصة الاستفادة من المنحة الدراسية الجديدة فى باريس والتى أسفرت عن نيله شهادة دكتوراة تحت إشراف إميل دوركاهيم والتى كانت السبب فى تغيير منحى حياته تماما.
لم تكن باريس بالنسبة لطه حسين مجرد عاصمة النور والثقافة بل كانت ينبوع الحضارات واللغات والآداب المختلفة مثل الفرنسية والرومانية واليونانية، وقد أعلن طه حسين مرارا عظيم حبه وعشقه لكل هذه الحضارات التى اكتشفها فى عاصمة النور والتى اكتشف فيها أيضا شريكة حياته سوزان التى أحبها وشعر معها بارتياح شديد منذ أول لقاء بينهما فى قاعات الجامعة. فقد وهبته هذه الحسناء الفرنسية صفحات خالدة فى حياته لم ينسها طوال عمره بل شعر نحوها بامتنان شديد كامتنانه للأدب والعلم. نجحت سوزان فى جذب طه حسين إلى فرنسا بصورة شبه نهائية، حيث كان يمضى هناك إجازته الصيفية دائما كما أسس صداقات قوية مع كبار الكتاب والمفكرين مثل بول فاليرى وأندريه جيد ولويس ماسينيون وجان كوكتو وجان بول سارتر وفنانين مثل الرسامة مارجريت بورديه.
انعكس عشق طه حسين لفرنسا على كيفية استقباله وترحيبه بالمفكرين الفرنسيين الذين جاءوا لزيارة مصر لتقديم دراسات باللغة الفرنسية عن أعمال عميد الأدب العربى خصوصا التى تتناول الثقافة الفرنسية التى تناولها بالدراسة والتعليق والانتقاد أيضا . وقد قدم طه حسين دراسات نقدية للأعمال الأدبية الفرنسية فور صدروها لكى يتيح للقارئ الفرانكفونى معرفة التطور الثقافى الذى حل على فرنسا التى تعد من وجهة نظره دولة لا غنى عنها لبشرية جمعاء سواء انتصرب أم انهزمت.
من جانب آخر كرس طه حسين جزءا كبيرا من حياته فى الفترة من 1920 وحتى 1959 لترجمة العديد من الأعمال الفرنسية إلى اللغة العربية، وذلك لكى يقدم للقراء قدوة يسترشدون بها.
يجب أن نلاحظ أن هناك العديد من الملامح ميزت هذه الترجمات فقد حققت الهدف الذى وجدت من أجله ألا وهو إيجاد التوازن بين رغبة القارئ ومشاعره، وقد عبر عن ذلك قائلا: "أريد أن أصنع التوازن بين الفلسفة والفن" وذلك تعليقا على ترجمته لأعمال بول هيرفيو.
فضلا عن كل ذلك فإنه بالإضافة إلى انفتاح طه حسين على الثقافة المتوسطية خصوصاً اليونانية والفرنسية، فقد اكتشف أهمية ملء الفراغ العربى سواء فى مجال المسرح أم حتى الرواية. كان عميد الأدب العربى يستشعر أهمية الإصلاح المجتمعى فى مصر وفى كل دول العالم العربى، ولعل ذلك على ما شجعه على اختيار أعمال أدبية معينة لترجمتها إلى العربية، خصوصا تلك التى تشجع على التحرر المجتمعى والسياسى والمساواة بين الرجل والمرأة آخذا بعين الاعتبار المساواة بين الرجل والمرأة والعدالة الاجتماعية خصوصا فى ترجمته لكتاب "حقوق الإنسان: ل"بول هيرفيو".
وبناء على ما سبق، فإنه يمكن القول إن ترجمات طه حسين خدمت ثلاثة أغراض.. إثراء الأدب العربى بشكل تقنى وجمالى، الالتزام بالتقدم السياسى والاجتماعى، وفى النهاية تقديم مساهمات فلسفية وأيديولوجية.
وقد عبر طه حسين عن هذه الأهداف صراحة فى المقدمات التى كان يصوغها فى مقدمة النصوص التى يترجمها إلى العربية مثل الذى فعله فى مقدمات المسرحيات التى ترجمها وكتب عليها تعليقات. لكن أحيانا تبدو هذه الأهداف واضحة بشكل عفوى إذ يكفى فقط قراءة ترجمات طه حسين للاستدلال عليها.
أما بالنسبة للسمات التى تميز ترجمات طه حسين، فهى التحليل الدقيق للموضوع الرئيسى للعمل المترجم، بالإضافة إلى رأيه المفصل حول العمل ملحقا به العديد من الملاحظات الشخصية، فضلا عن دراسة وافية للشخوص الرئيسية فى العمل، وكذلك بحث شامل ودقيق عن أصول هذه الشخوص سواء كانت يونانية أم لاتينية والسبب فى ذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى أن طه حسين قد كرس معظم جهده لترجمة كل ما يتعلق بالحضارة الفرنسية وآدابها .
ساعد هذا الإخلاص الذى حمله طه حسين للثقافة الفرنسية ومحاولته رفع مستوى الوعى باهمية فرنسا ثقافيا فى العالم العربى إلى ردود فعل إيجابية على يد أشهر المثقفين والكتاب الفرنسيين مثل أندريه جيد وجورج دوهاميل، كما منحته كل من جامعة ليون ومونبيليه الدكتوراه الفخرية، أما الحكومة الفرنسية فقد منحته وسام جوقة الشرف .
يرى الفرنسيون أن طه حسين استطاع فى ظل ظروف معينة الاستفادة التامة من الفكر الفرنسى فى اختيار النظريات والأساليب الأدبية التى رآها مناسبة . أولا لخدمة فكرة تحرير الأدب العربى من قبضة الدين والسياسة.. ثانيا لتشجيع العرب على الانفتاح على الحضارة الغربية وعلى رأسها الحضارة الفرنسية باعتبارها حضارة تستحق الإعجاب والاحترام وتستوجب تسليط الضوء عليها.
ولطه حسين عدة كتب تؤكد هذه النظرية.. ففى كتابه "من بعيد" يحتفى بالفنون ويخصص فصلا عن الممثلة الفرنسية سارة برنار (1844-1923) التى رحلت قبل وصوله لباريس بأيام بل ويعتبرها "أحسن سفير نشر الدعوة الفرنسية فى أقطار الأرض وأحسن تمثيل للعقل الفرنسى والفن الفرنسى والأدب الفرنسى حتى قرنها كثير من الكتاب بنابليون لأنها خدمت فرنسا ورفعت ذكرها إلى حد لم يبلغه كثير من قادتها الفاتحين.
أما الكتاب الثانى فيحمل عنوان "رحلة الربيع" وفيه يتناول الزمن الحديث الذى تمثله فرنسا الحديثة، والتى تتصل فى منجزاتها وقيمها الحضارية والثقافية والسياسية بالحضارة الإغريقية سواء من حيث مناخ الحرية والديمقراطية، أم تطور الفنون والآداب والفكر والحراك السياسى والثقافى والاجتماعى الدؤوب، فى حين تتجلى مظاهر المدنية الحديثة والتطور فى مجالات الحياة العامة والتقدم العلمى والمعرفى والصناعى الذى بلغته، وارتقت من خلاله بحياة شعبها ونهضته، ما أثار إعجابه الشديد بمنجزات هذه الحضارة الجديدة ومكتسباتها، ودعاه إلى التأكيد على ضرورة الأخذ بأسبابها ومقومات نهضتها من العلوم والمعارف والحرية والتقدم، للخروج من حالة التخلف والجهل والتردى والاستبداد التى يعيشها الواقع المصرى والعربى، والتى نجدها تلح فى حضورها عليه باستمرار وهو يشاهد مظاهر الحرية والمدنية الحديثة والرفاهية التى تتسم بها حياة الفرنسيين وحضارتهم الزاهرة.
الكتاب الثالث هو فصول فى الأدب والنقد، وفيه يدافع عن الحقوق المدنية التى استقاها العالم من الفرنسيين بالإضافة إلى تقديمه الكثير من أعمال كل من جيل رومان وجون جريودو ومارسيل تيبو وغيرهم.
تظهر كتابات طه حسين ومساهمته الفعالة فى التبادل الحضارى البناء والمثمر بين الحضارتين المصرية والفرنسية، وفى إطار هذا الاهتمام كان قد قرر ترجمة مراسلاته مع أندريه جيد، والتى أعرب فى بدايتها عن نيته فى ترجمة رائعته "الباب الضيق" والتى حصل بها على نوبل فى الأدب عام 1947 وسط دهشة أندريه جيد نفسه من أن تصل كتبه إلى القارئ العربى وقد زادت دهشته عندما قرأ رسالة طه حسين له التى يقول له فيها:- " أأدهشك يا سيدى إن قلت لك إن "الباب الضيق" ليس أول كتاب ترجم إلى العربية من كتبك؟ فقد تُرجمت "السيمفونية الريفية" منذ أكثر من عشر سنين ، وطبعت ترجمتها غير مرة. وتُرجمت بعد "الباب الضيق" "مدرسة النساء" وفى النية أن يقدم "المزيفون" إلى قراء العربية. ومن يدرى لعل "أقوات الأرض" أو "روميتيه" أو "بالود" أن تترجم فى وقت قريب.
إن الشرق العربى جدير أن تثق به. إنه يذيع أدبك كما أذاع من قبل آداب قادة الرأى فى العصر القديم.
وإنا لنبتهج إذ نراك بيننا فى الوقت الذى يقدم فيه كتابان من كتبك إلى قرائنا ويسعدنا أن ينبئك نجاحهما بأن الإسلام يحسن اللقاء كما يحسن العطاء." وقد مسح طه حسين بجملته الأخيرة تلك سوء الفهم الذى كان مأخوذا عن الإسلام وصورته النمطية وعزز الصلات العميقة بين العرب المسلمين والفرنسيين وكانت لكلماته الصريحة والصادقة التى تكشف عن مشاعر ودية وقع السحر على شريكه وصديقه الفرنسى أندريه جيد الذى استهل زيارته لمصر بقوله "ستظل ذكرى لقاء طه حسين هى الذكرى الأكثر اهمية والأكثر جمالا..فيا لكلماته من وقع السحر على النفوس ووقع الحكمة على العقول".
ومن شدة إعجاب أندريه جيد ب"طه حسين فقد كتب له مقدمة ترجمة كتابه الأيام فيما اعتبرت وقتها دراسة شاملة وتفصيلية فى آن واحد لفكره..وليس مقدمة أندريه جيد فقط هى التى عنت بذلك بل نافسها فى هذا أيضا شهادات كل من جون كوكتو وأندريه ميكال وجاك بيرك وقد لقبوه ب"فولتير العرب" و"مارتن لوثر الإسلام".
كان طه حسين على قناعة تامة بأن الولاء للإسلام يتمثل فى الاستفادة من تطور الآخرين وفهمهم، لذا لم يدخر جهدا فى تعزيز الحوار بين الثقافات وتقريب الفكر الفرنسى من الفكر العربى. وفى هذا الصدد عمد إلى كتابة عدة مقالات تعمل على رفع روح الإخوة وإيجاد أوجه التشابه بين الجانبين، وقد وجد العديد من التشابه فى الأعمال بين الكتاب العرب والكتاب الفرنسيين مثل: عمر بن أبى ربيعة وبيير لوتى. وابن حزم الاأدلسى وستاندال. وابن خلدون ومونتسكيو. ومنصور فهمى وأرنست رينان.
ولأنه درس جيدا الآداب العربية والفرنسية واليونانية، فقد استطاع الكشف بسهولة من خلال الدراسات النقدية عن التطابق وأوجه الشبه بين بعض النصوص الفرنسية وبعض النصوص الأخرى سواء عربية أو يونانية..من هذا المنطلق قدم طه حسين للقراء العرب تاريخ الأدب الفرنسى وقصص حياة كبار كتابه ومعظم أعماله الأدبية مثل أوجست كانط وشار بودلير وأندريه جيد وبول فاليرى وقد ألهمه هذان الأخيران بكتابة وصف لعلاقة صداقتهم الغنية جدا التى ربطتهم معا والتى كانت فى الواقع علاقة إعجاب متبادل تمكن الثلاثة من خلالها من إقامة صلات حقيقية توطدت بفعل مشاعر الاحترام . لذلك فليس من المستغرب أن نرى تأكيده الدائم على حبه الشديد لجميع كتاب فرنسا، لدرجة أنه يصف وفاة البعض منهم مثل سارة برنار وبول فاليرى بأنه خسارة للبشرية جمعاء. وقد وصل حب طه حسين لبول فاليرى أنه كان يزور قبره فى كل مرة يذهب فيها إلى فرنسا.
كان طه حسين فى الواقع يأمل أن يحفظ الكتاب العرب أعمال كتاب فرنسا وأن يدرسوها جيدا إيمانا منه بأن ذلك سيعمل على إثراء الفكر والأدب العربى. وبرغم هذا العشق الفرنسى وإحساسه بأن هناك قرابة روحية بين الأدبين المصرى والفرنسى، فإن ذلك جعل نقده يقف على قدم المساواة أمام كلا الأدبين، فكما كان ينقد الأدب العربى كان ينقد الأدب الفرنسى، وقد فعل ذلك مع رائعة ألبير كامى "الطاعون" عندما انتقد جانبها الأدبى وفعلها أيضا عندما انتقد الجانب الفلسفى فى "أسطورة سيزيف".
كان طه حسين يأمل فى إنشاء مركز أدبى للأبحاث والدراسات المتوسطية على غرار المركز المتوسطى فى نيس الذى كان يديره صديقه العزيز بول فاليرى، وقد كان يهدف بذلك إلى التحول إلى الغرب وأوروبا، لذلك فعندما نشر كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر" وخلص فيه إلى هذه النتيجة فإنه أثار ردود فعل شديدة الغضب بين دعاة العروبة مثل ساطع الحصرى ودعاة القومية مثل أحمد لطفى السيد. ودعاة التيارات الأخرى والتى كانت تزخر بهم مصر آنذاك مثل سيد قطب وزكى مبارك وأحمد أمين وغيرهم.
وفى النهاية فإن الفكر المتوسطى لطه حسين كان فى الواقع تتويجا لرحلة طويلة نجح خلالها فى التوفيق بين الحضارة العربية والحضارة الفرنسية، وقد فعل ذلك بسعادة شديدة فضلا عن تلقيه دفعة قوية من التعاليم اللاتينية واليونانية والعديد من اللغات والثقافات الأخرى. ولأنه كان يتوجه بعلمه وثقافته إلى الناطقين باللغة العربية، فقد كانوا أول من استفادوا من خبراته هذه، وكان هو يتعامل معهم على أنهم أولويته المطلقة. لكن فى النهاية لا أحد ينكر تأثير طه حسين على الثقافة الفرنسية وإلهامه لها ونجاحه فى عملية الإصلاح الفكرى التى قام بها فى الوطن العربى وتفرده بالجمع بين الثقافتين المصرية والفرنسية.
قصيدة نزار قبانى فى رثاء العميد التى أغضبت السادات.. «حوار ثورى مع طه حسين»
لهذه القصيدة التى نظمها وألقاها الشاعر نزار قبانى قصة مثيرة فى نهاية السبعنيات من القرن الماضى منعت القصائد التى كتبها نزار قبانى للمطربين المصريين فى الاذاعة المصرية، وكانت هناك احتفالية مصرية بالذكرى الثالثة لرحيل عميد الأدب العربى، فألقى قبانى قصيدته «حوار ثورى مع طه حسين» وعندما وصل إلى المقطع الذى يقول فيه «سقط الفكر فى النفاق السياسى .. وصار الأديب كالبهلوان يتعاطى التبخير يحترف الرقص .. ويدعو بالنصر للسلطان» غضب السادات من هذا المقطع بإيعاز من الملتفين حوله.
ضوءُ عينَيْكَ أمْ هُما نَجمَتانِ؟
كُلُّهمْ لا يَرى .. وأنتَ تَراني
لستُ أدري مِن أينَ أبدأُ بَوْحي
شجرُ الدمعِ شاخَ في أجفاني
كُتِبَ العشقُ، يا حبيبي، علينا
فهوَ أبكاكَ مثلما أبكاني
عُمْرُ جُرحي .. مليونَ عامٍ وعامٍ
هلْ تَرى الجُرحَ من خِلال الدُخانِ؟
نَقَشَ الحبُّ في دفاترِ قلبي
كُلَّ أسمائِهِ ... وما سَمَّاني
قالَ: لا بُدَّ أن تَموتَ شهيداً
مثلَ كُلِّ العشّاقِ ، قلتُ عَسَاني
وطويتُ الدُّجى أُسائلُ نفسي
أَبِسَيْفٍ .. أم وردةٍ قد رماني؟
كيفَ يأتي الهوى، ومن أينَ يأتى؟
يعرفُ الحبُّ دائماً عنواني
صَدَقَ الموعدُ الجميلُ .. أخيراً
يا حبيبي، ويا حَبيبَ البَيَانِ
ما عَلَينا إذا جَلَسْنا بِرُكنٍ
وَفَتَحْنا حَقائِبَ الأحزانِ
وقرأنا أبا العلاءِ قليلاً
وقَرَأنا (رِسَالةَ الغُفْرانِ)
أنا فى حضرةِ العُصورِ جميعاً
فزمانُ الأديبِ .. كلُّ الزّمانِ ..
ضوءُ عينَيْكَ .. أم حوارُ المَرايا
أم هُما طائِرانِ يحترِقانِ؟
هل عيونُ الأديبِ نهورُ لهيبٍ
أم عيونُ الأديبِ نَهرُ أغاني؟
آهِ يا سيّدي الذي جعلَ اللّيلَ
نهاراً .. والأرضَ كالمهرجانِ..
إرمِ نظّارَتَيْكَ كي أتملّى
كيف تبكي شواطئُ المرجانِ
إرمِ نظّارَتَيْكَ ... ما أنتَ أعمى
إنّما نحنُ جوقةُ العميانِ
أيّها الفارسُ الذي اقتحمَ الشمسَ
وألقى رِداءَهُ الأُرجواني
فَعلى الفجرِ موجةٌ مِن صهيلٍ
وعلى النجمِ حافرٌ لحصانِ ..
أزْهَرَ البرقُ فى أنامِلكَ الخمسِ
وطارَتْ للغربِ عُصفورَتانِ
إنّكَ النهرُ .. كم سقانا كؤوساً
وكَسانا بالوردِ وَ الأقحُوانِ
لم يَزَلْ ما كَتَبْتَهُ يُسكِرُ الكونَ
ويجري كالشّهدِ تحتَ لساني
فى كتابِ (الأيّامِ) نوعٌ منَ الرّسمِ
وفيهِ التفكيرُ بالألوانِ..
إنَّ تلكَ الأوراقِ حقلٌ من القمحِ
فمِنْ أينَ تبدأُ الشّفتانِ؟
وحدُكَ المُبصرُ الذي كَشَفَ النَّفْسَ
وأسْرى فى عُتمةِ الوجدانِ
ليسَ صعباً لقاؤنا بإلهٍ..
بلْ لقاءُ الإنسانِ .. بالإنسانِ..
أيّها الأزْهَرِيُّ ... يا سارقَ النّارِ
ويا كاسراً حدودَ الثواني
عُدْ إلينا .. فإنَّ عصرَكَ عصرٌ
ذهبيٌّ .. ونحنُ عصرٌ ثان
سَقَطَ الفِكرُ في النفاقِ السياسيِّ
وصارَ الأديبُ كالبَهْلَوَانِ
يتعاطى التبخيرَ.. يحترفُ الرقصَ
ويدعو بالنّصرِ للسّلطانِ..
عُدْ إلينا .. فإنَّ ما يُكتَبُ اليومَ
صغيرُ الرؤى .. صغيرُ المعاني
ذُبِحَ الشِّعرُ .. والقصيدةُ صارَتْ
قينةً تُشتَرى كَكُلِّ القِيَانِ
جَرَّدوها من كلِّ شيءٍ .. وأدمَوا
قَدَمَيْها .. باللّفِ والدّورانِ
لا تَسَلْ عن روائعِ المُتنبّي
والشَريفِ الرّضيِّ ، أو حَسَّانِ ..
ما هوَ الشّعرُ ؟ لن تُلاقى مُجيباً
هوَ بينَ الجنونِ والهذيانِ
عُدْ إلينا، يا سيّدى ، عُدْ إلينا
وانتَشِلنا من قبضةِ الطوفانِ
أنتَ أرضعتَنا حليبَ التّحدّى
فَطحَنَّا النجومَ بالأسنانِ..
واقتَلَعنا جلودَنا بيدَيْنا
وفَكَكْنا حجارةَ الأكوانِ
ورَفَضْنا كُلَّ السّلاطينِ فى الأرضِ
رَفَضْنا عِبادةَ الأوثانِ
أيّها الغاضبُ الكبيرُ .. تأمَّلْ
كيفَ صارَ الكُتَّابُ كالخِرفانِ
قَنعوا بالحياةِ شَمسَاً .. ومرعىً
واطمَأنّوا للماءِ و الغُدْرانِ
إنَّ أقسى الأشياءِ للنفسِ ظُلماً..
قَلَمٌ فى يَدِ الجَبَانِ الجَبَانِ..
يا أميرَ الحُروفِ .. ها هيَ مِصرٌ
وردةٌ تَستَحِمُّ فى شِريانى
إنّني في حُمّى الحُسينِ، وفي اللّيلِ
بقايا من سورةِ الرّحمنِ..
تَستَبِدُّ الأحزانُ بي ... فأُنادي
آهِ يا مِصْرُ مِن بني قَحطانِ
تاجروا فيكِ.. ساوَموكِ.. استَباحوكِ
وبَاعُوكِ كَاذِبَاتِ الأَمَانِي
حَبَسوا الماءَ عن شفاهِ اليَتامى
وأراقوهُ في شِفاهِ الغَواني
تَركوا السّيفَ والحصانَ حَزينَيْنِ
وباعوا التاريخَ للشّيطانِ
يشترونَ القصورَ .. هل ثَمَّ شارٍ
لقبورِ الأبطالِ في الجَولانِ؟
يشترونَ النساءَ .. هل ثَمَّ شارٍ
لدموعِ الأطفالِ في بَيسانِ؟
يشترونَ الزوجاتِ باللحمِ والعظمِ
أيُشرى الجمالُ بالميزانِ؟
يشترونَ الدُّنيا .. وأهلُ بلادي
ينكُشونَ التُّرابَ كالدّيدانِ ...
آهِ يا مِصرُ .. كَم تُعانينَ مِنهمْ
والكبيرُ الكبيرُ .. دوماً يُعاني
لِمَنِ الأحمرُ المُراقُ بسَيناءَ
يُحاكي شقائقَ النُعمانِ؟
أكَلَتْ مِصْرُ كِبْدَها .. وسِواها
رَافِلٌ بالحريرِ والطيلَسَانِ..
يا هَوَانَ الهَوانِ.. هَلْ أصبحَ النفطُ
لَدَينا .. أَغْلى من الإنسانِ؟
أيّها الغارقونَ فى نِعَمِ اللهِ ..
ونُعمَى المُرَبْرَباتِ الحِسانِ...
قدْ رَدَدْنا جحافلَ الرّومِ عنكمْ
ورَدَدْنا كِسرى أنوشِرْوانِ
وحَمَيْنا مُحَمَّداً.. وعَلِيَّاً
وحَفَظْنا كَرامَةَ القُرآنِ ..
فادفعوا جِزيَةَ السّيوفِ عليكُمْ
لا تعيشُ السّيوفُ بالإحسانِ ..
سامِحيني يا مِصرُ إنْ جَمَحَ الشِّعرُ
فَطَعْمُ الحريقِ تحتَ لِساني
سامحيني .. فأنتِ أمُّ المروءَاتِ
وأمُّ السّماحِ والغُفرانِ..
سامِحيني .. إذا احترَقتُ وأحرَقْتُ
فليسَ الحِيادُ فى إمكاني
مِصرُ .. يا مِصرُ .. إنَّ عِشقي خَطيرٌ
فاغفرى لى إذا أَضَعْتُ اتِّزانى
نزار قبانى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.