المستشار حازم بدوي يعلن فتح باب الترشح لانتخابات مجلس النواب 2025    الري تحسم الجدل حول غرق المنوفية والبحيرة بسبب فيضانات سد النهضة    أيام العطلات الأسبوعية الرسمية في شهر أكتوبر 2025    12 أكتوبر.. انطلاق أسبوع القاهرة للمياه بمشاركة 95 منظمة دولية    "الوكيل": دعم مشروعات بقيمة تجاوزت 18 مليون يورو لصالح رواد الأعمال وأعضاء غرفة الإسكندرية    رئيس الهيئة القومية لسلامة الغذاء يشارك في افتتاح الجناح المصري بمعرض "أنوجا" الدولي بألمانيا    الرئيس السيسي يوجّه بالإسراع في استكمال التغذية الكهربائية لمشروع الدلتا الجديدة    وزير الاستثمار يتفقد المركز اللوجستي الجمركي للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس    «القاهرة الإخبارية»: نتنياهو يوافق على المرحلة الأولى من خطة ترامب للإفراج عن المحتجزين    وفاة طفلين نتيجة التجويع وسوء التغذية في غزة.. ومستوطنون يقتحمون قرية المغير برام الله    " سي إن بي سي": توقعات باستمرار الإغلاق الحكومي الأمريكي حتى 14 أكتوبر وسط تعثر المفاوضات    عمرو ناصر يقود هجوم الزمالك أمام غزل المحلة في الدوري المصري    وكيل الشباب والرياضة بالفيوم يشهد انطلاق الدورة الأساسية رقم 578 للمدربين والإداريين    ضبط شخص تعدى على فتاة في الدقهلية    حريق هائل بمصنع بلاستيك في العاشر من رمضان    فردوس عبد الحميد: سعاد حسني نهرتني عندما راقبتها.. ومسلسلي مع "محمد رمضان" كان متوازن    قصور الثقافة تواصل مشاركتها بالعروض الفنية للأطفال في معرض دمنهور    لأول مرة.. وزير الآثار يفتتح مقبرة الملك أمنحتب الثالث بوادى الملوك بالأقصر بعد 226 عامًا من اكتشافها    مواصفات صحية.. طريقة عمل اللانشون بجميع أنواعه في المنزل    ضبط 100.5 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    المجر تتمسك بالنفط والغاز الروسيين بينما يسعى الاتحاد الأوروبي والناتو إلى خفض الإمدادات    "الأرصاد": فرص أمطار اليوم على هذه المناطق    ضبط عناصر بؤر إجرامية لجلب المخدرات ومصرع 4 عناصر جنائية شديدة الخطورة عقب تبادل إطلاق النيران مع قوات الشرطة (صور)    قوافل طبية وغذائية لدعم الأسر المتضررة من ارتفاع منسوب مياه النيل بدلهمو بالمنوفية    وزير الزراعة يعلن تحقيق الصادرات الزراعية المصرية 7.5 مليون طن حتى الآن    المديرة التنفيذية لصندوق "قادرون باختلاف" تترأس اجتماعاً لاستعراض استراتيجية عمل الصندوق وإعداد مقترح الهيكل التنظيمي    أسعار الدواجن في مرسى مطروح اليوم    "المسلخ رقم 5" رواية ترصد انتشار اضطراب ما بعد الصدمة الناتج عن الحروب    وزير الخارجية يلتقي سفراء الدول الإفريقية المعتمدين لدى اليونسكو    إيرادات فيلم فيها إيه يعني تتجاوز حاجز ال10 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض في السينمات    مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة الشرقية    السبت 4 أكتوبر 2025.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية اليوم    «التأمين الصحي»: خطة تطوير شاملة لمستشفى النيل بالقليوبية ورفع كفاءة خدمات الطوارئ والرعاية    الرعاية الصحية ببورسعيد بعد إجراء جراحة دقيقة: التكنولوجيا الصحية لم تعد حكرا على أحد    جامعة قناة السويس تطلق قافلة طبية شاملة بمدينة سانت كاترين    خطوات تنزيل تردد قناة طيور بيبي الجديد 2025 على جميع الأقمار الصناعية    موجة انتقادات لاذعة تطارد محمد صلاح.. ماذا فعل النجم المصري؟    "تابع الآن قيامة عثمان" تردد قناة الفجر الجزائرية الجديد على جميع الأقمار الصناعية بجودة hd    "الوكالة الوطنية للإعلام": سقوط طائرة إسرائيلية مسيّرة عن بُعد في منطقة "وادي فيسان" في "جرود الهرمل" شرقي لبنان    القبض على المتهمين بالاعتداء على شاب أثناء سيره بصحبة زوجته فى الحوامدية    ما حكم من لم يقدر على الوضوء لأجل الصلاة؟.. الإفتاء توضح    حفل استقبال طلاب الطب البيطري بجامعة القناة يؤكد على تعزيز الانتماء الجامعي    زكى القاضى: موافقة حماس تنقل الكرة لملعب ترامب.. والخطة لا تشمل الضفة الغربية    موعد مباراة بايرن ميونخ وفرانكفورت في الدوري الألماني.. والقنوات الناقلة    ورشة تدريبية في فنون المونتاج بجامعة قناة السويس لتعزيز المهارات    مصرع سيدتين وإصابة 7 في حادث تصادم مروّع بالفيوم    هالة عادل: عمل الخير وصنع المعروف أخلاق نبيلة تبني المحبة بين البشر    تشكيل الزمالك المتوقع أمام غزل المحلة بالدوري    دار الإفتاء توضح: حكم الصلاة بالحركات فقط دون قراءة سور أو أدعية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة قنا    موعد انخفاض أسعار الطماطم في الأسواق.. الكيلو وصل 35 جنيه    مواعيد مباريات اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 والقنوات الناقلة    وزير الخارجية يثمن الدعم الفرنسي للمرشح المصري لرئاسة اليونسكو خالد العناني    «الصحة» تطلق البرنامج التدريبي «درب فريقك» لتعزيز مهارات فرق الجودة بمنشآتها    اللواء مجدى مرسي عزيز: دمرنا 20 دبابة.. وحصلنا على خرائط ووثائق هامة    موافقة حماس على خطة ترامب... خطوة استباقية قد تفتح أفق إنهاء الحرب    مباشر كأس العالم للشباب - مصر (0)-(1) تشيلي.. الحكم يرفض طلب نبيه    مصر تعرب عن تقديرها لبيان حماس رداً على خطة الرئيس ترامب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



»اليَقِينُ« طريقُ طه حسين إلي »الشَّك«
نشر في أخبار الأدب يوم 10 - 11 - 2013


طه حسين
1
"ليس من الضروري أن تكون مُسْلِماً حتي تتمتَّع بالقرآن الكريم وتتذوَّق قِيَمَه، وليس من الضروري أن تكون مسيحياً كي تتمَتَّع بالكتاب المُقَدَّس، وليس من الضروري أن تكون يهودياً، وإنَّما يكفي أن تكون إنسانا".
2
الكلام لطه حسين. قِراءَتي لأعماله، وكتاباتِه، بشكل دائِمٍ، ومُتَواصِل، كما أفعل مع مَنْ لهم أثَرٌ معرفي كبير في نفسي، مِنَ العرب، ومن غير العرب، من المفكرين والمبدعين والفنانين الكبار، أتاحَتْ لي أن أَكْتَشِفَهُ باستمرار، وأتعرَّفَ عليه، وعلي مواقفه التي طالما كانتْ مُحْرِجَةً للكثيرين، وكانت عَلامةً فَارِقَةً في حياتِه هو نفسه. فبقدر ما هاجَمَ اعُلماءب الأزهر، وانتقد طُرُق ومناهج التدريس، في هذه الجامعة الدينية العتيقة، بقدر ما انْتَقَدَ التَّعليم االحديثب نفسه، الذي لم يكن في مستوي ما رَغِبَ فيه، باعتباره، كاتباً، ومُفَكِّراً مشغولاً بالمستقبل، وبنهوض مصر، التي كانت، آنذاك، في عنفوان حراكها، الفكري والثقافي، الذي بدا واضحاً في صراعِ وتَجاذُباتِ أطْرافٍ مختلفة، لتكريس نفسها، باعتبارها البديل الفكري، الذي سيضمن نهضةَ الأمة، ويخرج بها من براثن التخلُّف والانحطاط.
3
ضمن هذا الصِّراع الفكري، كان طه حسين يعمل علي مُراجَعَة أُسُسِ المعرفة العربية، التي كانت، بكل تَمَظْهُراتِها، وأشكالها التعبيرية، تحت هيمنة التقليديين أو المُحافِظين، ممن اعتبروا هذا التراث الفِكْرِيَّ والإبداعِيَّ، تُراثاً لا يقبل المُراجعَة، فهو مُحْكَم البناء، ومعرفتُه تقتضي السَّيْر في طريقه، أو اتِّباعه، فهو مصدرٌ للمعرفة، وطريقةٌ في النظر للأشياء، وفَهْمِها.
هذه المراجعة التي سَلَكَها طه حسين، فيما كان يكتبُه، وما كان يقوله لطلبته في الجامعة، هي ما جعل من خُصومِه يعتبرونه تَغْرِيبِياً، ينتصر للثقافة الفرنسية، بشكل خاص، وللمناهج الغربية، عُموماً، في مقابل الثقافة العربية »الأصيلة« كما كانوا يتصوَّرُونَها، ويدعون لها، أو يُكَرِّسُونَها، من خلال ما يكتبونَه، ويُرَوِّجُونَه من أفكار.
4
فكتاب » في الشِّعر الجاهلي«، الذي خرج فيه طه حسين عن السِّياقِ العامِّ، لِما كان معروفاً من أفكار، وما كان يأخذه الطلبة عن مُدَرِّسِيهم، وأساتذتِهم، لم يكن مُهِمّاً من حيث النتائج التي وصل إليها، بقدر ما كانت أهَمِّيَتُه في المنهج الذي قرأ به هذا الشِّعر، أو وَضَعَ، من خلاله، هذا الشِّعر، كاملاً موضع »شَّكٍ«، بما يعنيه هذا الشَّك من مراجعة جذرية، فاحِصَة، وعميقة، في التراث الشِّعري العربي، الذي بدا لطه حسين أنَّه غارقٌ في المُسَلَّمات واليقينيات، ولا أحدَ فكَّر في مُوَاصَلَة ما كان بَدَأَه بعض القُدَماء من شَكٍّ، وما كان أثاره بعض دارسي هذا الشِّعر من المستشرقين.
5
لستُ في حاجَةٍ للعودة لهذا الكتاب الذي سبق أن كَتَبْتُ عنه، فأنا، بِنَاءً علي ما بدأْتُ به من كلام لطه حسين، في مقدمة هذا النص، أريدُ أن أتكلَّمَ عن كتاب آخر، له أهمية خاصَّة في هذا السياق، هو كتاب اعلي هامش السيرةب بأجزائه الثلاثة، الذي لم يُقْرَأ من قِبَل كثير ممن اعتبروه كتاباً في سيرة الرسول، وفقاً لِما عَرفُوه من مَرْوِياتٍ لهذه السيرة، في بعض مصادرها القديمة، ربما طبيعة المرحلة التي كتب فيها طه حسين هذا الكتاب [1933]، لم تكن في صالح طه حسين، خصوصاً علي المستوي الفكري العام، الذي كان طه حسين لا يزال يعيش فيه علي وَقْعِ ما أثاره عليه كتاب »في الشِّعر الجاهلي« من مشاكل، لم تقتصر علي خُصومه التقليديين، بل شملت خُصومَه السياسيين، رغم ما سيجده من دَعْمٍ من قِبَل بعض هؤلاء، الذين حاولوا امتصاص هذا اللَّغَط، ووضعه خارج الصراعات، والمُزايدات السياسية، التي لا علاقة لها بالشِّعر، ولا بما كان يتوَخَّاه طه حسين من هذا العَمَل النقدي المُهِمّ.
6
هذا الكتاب، بأجزائه الثلاثة، كما صَدَرَتْ في طبعة دار المعارف، قَرَأْتُه أكثر من مَرَّةً، ليس رغبةً في قراءة السيرة، في ذاتها، وهذا هو موضوع الكتاب، بل في معرفة ما تَمَثَّلَه طه حسين من هذه السيرة، أي من المصادر التي عاد إليها، وفي الطريقة التي سَلَكها في كتابة هذه السيرة. والسؤال: هل كان طه حسين غير مُقْتَنِعٍ بما كُتِبَ من سِيَرٍ سابِقةٍ، وعمله هذا هو كتابة فيها ما يمكن اعتباره إضافةً واختراقاً؟ هل خامَرَهُ »الشَّكّ«، فيما جاء في بعض هذه السِّيَر، أو فيها كاملةً، رغم ما قَدَّمَه من دُفوعات في مقدمة الكتاب، حول ما يتعلَّق بالنبي وبالدِّين، بشكل خاص ؟ هل أراد بهذا العمل أن يُغازل خصومه من المُحافظين، ممن واظبوا علي مهاجمته، دون كَلَل، للتَّخفيف من حدَّة التَّوتُّرات التي خَلَّفَها كتاب »الشِّعر الجاهلي«؟ أم أنَّ الأمر يتعلَّق بعودة طه حسين للتاريخ، الذي كان بين أهم ما أسَّس به معرفتَه، في الأدب، بشكل خاص، ولِما كتبَه في ما سَمَّاه ب »الإسلاميات«، وهو الذي كان أكَّدَ ما للتاريخ من أهَمِّيَة في فهم ومعرفة كثير من مشكلات النص الشِّعري، والسياق الفكري للثقافة العربية القديمة، أو للتراث إجمالاً؟
7
مَنْ يقرأ »علي هامش السيرة«، بانتباه، وبتَجَرُّد، سيري كيف أنَّ طه حسين لم يكن يكتب التاريخ، بقواعد هذا العلم، وما يتطلبه من تَتبُّع للوقائع والأحداث، وفق ما جَرَتْ به، فهو منذ الجزء الأول، اخْتَارَ أن يحكي السيرة تَخْييلاً، لا أن يُسَايِر السِّيرَةَ، بنفس التحقيب والترتيب الذي سار عليه كُتَّاب السيرة.
وهذا في ذاته، له أكثر من معنًي عند طه حسين، أو ما يمكن أن نتأوَّلَه في المنهج، أو في الطريقة التي اختار أن يُعيد بها سَرْد السيرة.
يعرف من قرأوا ما وَصَلَنا من سِيَرٍ، أنَّ سيرة الرسول لم تُكْتَب إلاَّ بعد مرور قرنٍ علي وفاته، تقريباً، وهو ما حدث حتي بالنسبة للحديث، ما جعل السيرة، في روايتها الأولي لابن اسحاق، لا تُقْبَل، لِما دخَل فيها من خيال، أو ما حدث فيها من تناقُضات، أو ما اعتبره بعض اللاَّحِقين عليه شوائبَ شَابَتِ الكتابَ، رغم أنَّه سيظل هو الوثيقة التي عاد إليها من كتبوا السيرة بعد ابن هشام، بمن فيهم ابن هشام نفسه.
8
هذا التخييل الذاتي، أو السيرة التخييلية، رغم ما فيها من وقائع وأحداث وتواريخ، هي نفسُها ما نجده عند ابن سعد وعند الطبري وعند ابن هشام ، كان لحظةَ الوَهَن في ما يوجد في السيرة من أبعاد تخييلية أسطورية، وهي ما سَيَعْمَدُ طه حسين لاستعماله، بنوعٍ من التَّوَسُّع، في إعادة تَخَيُّل بعض هذه الوقائع، أو كما يقول ا وأُحِبُّ أن يَعْلَمَ الناس..أنِّي وَسَّعْتُ علي نفسي في القصص، ومنحتُها من الحُرِّيَةَ في رواية الأخبار واخْتِراع الحديث ما لم أجد له بأساً، إلاَّ حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين، وإنما التزمْتُ ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية، وعلماء الدين. حاول طه حسين من خلال، هذا الاستدراك، تبرير ما قاله قَبْل كلامه هذا، عن »كَلَف الشعب بهذه الأخبار، وجده في طلبها، وحرصه علي قراءتها والاستماع إليها«. وهو يقصد بالشَّعْب هنا، عامة الناس، ممن يأخذون الدِّين بما يُرْوَي، ويُقال، لا بالبحث، والتأمُّل، والتمحيص، كما يفعل هو نفسُه، أو كما فعل فيما كتبه في الشعر الجاهلي، وفي حديث الأربعاء، ومُقَدِّمَة كتاب »في الشِّعر الجاهلي« كافية، لتفكيك مقدمة »علي هامش السيرة«، وفَضْح هذا »الشك« الذي فضَّل طه حسين، هذه المرة، أن يضعه في غلاف من »اليقين«، الذي يدعو لمزيد من الشك فيما دخل علي السيرة من روايات، لا يمكن أن تَصْمُد أمام العقل. ثمَّة، من الباحثين المعاصرين، من يري أنَّ الاستراتيجية الثقافية لطه حسين، هي استراتيجية نخبوية، ولم يكن مُنْشَغِلاً بتوصيل الثقافة إلي الجماهير، أو »الشعب« بتعبير طه حسين نفسه، فالشعب لا يمكنه أن يستوعبَ »المنهج الفلسفي الذي اسْتَحْدَثَه ديكارت عن حقائق الأشياء«، خصوصاً حين يكون هذا المنهج، قائماً علي تَجَرُّد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل، أو يقتحم موضوع بحثه خالِيَ الذهن من كل شيء.
9
من يقرأ كتاب »الطَّبقات الكُبْرَي« لابن سَعْد، سيلاحظ أن هذه السيرة، هي المصدر الأكثر استعمالاً، وتوظيفاً من قِبَل طه حسين، أو هي التي وجد فيها ما يسمح له بكتابةِ سيرةٍ »حَديثَةٍ«، فيها مراجعة للمرويات القديمة، رغم استعماله لتاريخ الطبري، وسيرة ابن هشام، لكن، دون دَرْسٍ، أو تحليل، مُبَاشِرَيْن، بل بوضع الأحداث والوقائع، ذاتها، في مواجهة قارئها، أو وضع القاريء، بالأحري، في مواجهة هذه الوقائع، وفي تمييزِها، أي في تمييز التاريخي فيها عن الأسطوري، الذي هو ما يذهب إليه »الشعب«، لأنه »يَجِدُّ في طلبه«، بعكس ما قد يذهب إليه الباحث، الفاحِص، أو المُؤَرِّخ الذي يَحْتَكِم في عمله للوثائق والمعطيات، أو لِما يصل إليه من خلال عملية فَحْصٍ دقيقة ومتأنِّيَة لهذه الوثائق والمعطيات. أو كما يقول فيليب.م. جونز »إنَّ أوَّل مهمة يؤدِّيها الناقد هي أن يُوَضِّحَ لنا المُبْهَمَ فيما نقرأ، وأن يُنَظِّمَ النص تنظيماً يُخْرِجُه من الفوضي التي كانت تسودُه نتيجةً لِبُعْد العَهْد الذي كُتِب فيه، وكثرة الآراء التي تضاربتْ في أصله وتفسيره«.
10
لا أتصَوَّر أنَّ طه حسين أراد كتابةَ سيرة، بالمعني الأسطوري التخييلي، فقط، لِشَدِّ القاريء إليه، أو ترغيبه في قراءة سيرة الرسول، ما كان يريدُه طه حسين هو تأكيد البُعْد الأسطوري في بعض مفاصل السيرة، التي أضاف لها الرواة المختلفون، وغيرهم ممن استعملوا شخصية النبي فيما كتبوه، لإخراج النبي من السياق الدُّنْيَوي، ووضعه في سياق المُقَدَّس، أو الغيبي، رغم ما أكَّد عليه القرآن، نفسه، من أنَّ مُحَمَّداً بَشَرٌ مثل جميع البشر، يأكُل ويمشي في الأسواق.
المقدس في شخص النبي، هو طبيعةُ الرسالة التي كُلِّفَ بحَمْلِها، واختياره لتبليغ الرسالة، دون غيره من فتيان قريش، أو ممن كانوا ينتمون للطبقة الأرستقراطية، من تُجَّار مكة المُتَنَفِّذِين. هذا التَّكْليف، هو ما سيكون الخط الفاصل، الذي سيجعل من التاريخي، يحتمل الإضافة، والتَوَسُّع في إضفاء الغيبي علي المعلوم، أو المُقَدَّس علي الدنيوي.
11
حين قرأْتُ ما كان كتبه الشَّاعِر العراقي سعدي يوسف عن كتاب اعلي هامش السيرةب، يعتبره كتاباً عظيماً، وسعدي، كما يعرف الجميع، هو االشيوعي الأخيرب، كما كتب عن نفسه في أحد أعماله الشِّعرية، فَهِمْتُ القَصْدَ من كلام سعدي، الذي، هو، فيما أعْتَقِد، نفس ما أذهبُ إليه في فهمي لدافع طه حسين في كتابة هذا العمل، الذي لا بُدَّ أن نعود لقراءته من جديد، وفي ضوء ما تُتِيحُه لنا الدراسات الحديثة التي وَعَتْ المسافة الفاصلة في قراءة الدِّين، أو ما له علاقة بالدِّين، بين الوعي التاريخي، المبني علي المعطيات والوقائع، واختبار هذه المعطيات وفَحْصِها، والوعي الأسطوري، الذي يُضْفِي علي الواقع ما يُفارِقُه، ويَنْبُو عنه، أو يخرج به إلي التَّزَيّد، والتَّقْوِيل، والتَّبْدِيل.

12
إنَّ كتاب »علي هامش السيرة«، هو كتابةٌ للسيرة، بنفس المنهج الذي به كتب طه حسين افي الشِّعر الجاهليب، فقط، أنَّ »الشَّك«، في الكتاب الأوَّل، لم يكن شَكّاً في شخص النبي، ولا في حقيقة الوحي، بل فيما دَخَل علي هذه السيرة من زياداتٍ، وإضافاتٍ، تخرج عن سياق الواقع، وهي نوع من تقديس المُقَدَّس، أو تشييده علي الغيب، بما لا يحتمله الغيب نفسُه، حين يوضَعُ أمام آلة االشَّكب، الذي عَمِل طه حسين، هذه المرَّة، علي إخْفائهِ، حتي لا تعود الأمور إلي ما عرفَتْه من قبل، أو ألْبَسَ الشَّك قَمِيص اليقين، رغم ما قاله عن العقل في مقدمة الكتاب، مِمَّا لا يمكن الاطمئنان له، خصوصاً في وضع كاتِبٍ ومفكر، مثل طه حسين، وهذا، ربما، ما كان أزْعَجَ محمد أركون الذي اعتبر ما كتبه طه حسين في هذا الكتاب، لا يَتَّسِق مع فكر طه حسين، الذي هو فكر نقدي يحتكم للعقل، ويتحرَّر من قيود واأغلال النص المنقولب.
13
هذا الذي ذَهَبْتُ إليه هنا، له علاقة بما بدأتُ به. فاستفراد »المسلمين« بالقرآن، باعتباره كتاباً لا يمكن أن يتمتَّع، أو يستمتع، ويَسْتَلِذَّ بقراءته غير المسلمين، أمْرٌ غير صحيح في نظر طه حسين، وهو ما يَسْرِي علي المسيحيين واليهود، أيضاً، فيما يتعلَّق بالكتاب المقدَّس، بِعَهْدَيْه. في المعرفة، والرغبة في المعرفة، لا يمكن أن يكون الدِّين خَطّاً فاصِلاً بين المسلم وغير المسلم، فالإنسان، مهما يكن انتماؤه العقائدي، قادر، بما له من عقل، وما له من خيال، علي أن يقرأ هذا الإرث الديني، أو هذه الكُتُب، كما يقرأ غيرها، وهي كتبٌ، بالتالي تتوجَّه للإنسان، أو لجميع الناس، القرآن مثلاً، فيه من هذه الصيغة ما يكفي لتأكيد ما يقوله طه حسين. نحن اليوم في حاجة لوضع هذه الكُتُب في علاقة مع بعضها، وقراءتها مع بعضها، لنعرف، علي الأقل، ما يجمع بينها، وما قد يكون خطّاً فاصلاً فيها بين هذا الكتاب، وذاك، لا أن نمنع المسلم من قراءة التوراة والإنجيل، ونمنع المسيحي واليهودي من قراءة القرآن، أو نعتبر قراءتَه تدنيساً للكتاب، رغم ما قد يذهب إليه البعض، في الآية، بالتأكيد علي »المُطَهَّرِين«، التي تحتاج لِفَحْصٍ، حتي في شأن من يدَّعُون الإسلام، فيما نراه ونسمعه اليوم، من أفكار، حَرَّفت الدِّينَ نفسَه، وخرجَت به عن الغرض الذي جاء من أجله.
14
البُعْد الإنساني في المعرفة، اعتبره طه حسين حَلاًّ يُبْعِدُنا عن هذا التَّشَاحُن، والتَّطَاحُن الذي هو أساس ما نعيشه من أعطاب في كل شيء. فكتابة طه حسين ل »علي هامش السيرة« لننتبه لتعبير هامش، في العنوان، وتداعياته في الكتاب بأجزائه الثلاثة، كان تأكيداً علي البُعْد الإنساني في شخصية النبي، وفي الدِّين نفسه، حين ننظر إليه خارِجَ ما قد يَحُفُّه من شوائب، أو ما يعْلَق به من طبقات تُخْفِي فيه هذا البُعْد الذي يصبح فيه الإنسان مُجَرَّد كائِنٍ بلاصوت، ولا حق له في التفكير والنظر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.