يقول تعالي في محكم آياته( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) سورة الأحزاب.12 فلا غرو إن ظلت سيرة سيدنا محمد واحة يلجأ إليها كل باحث عن القدوة والأسوة الحسنة والمثل الأعلي, بل والفهم الصحيح للإسلام وأحكامه وقواعده الفكرية. علي جانب آخر, فان محاولة رواة الحديث في منتصف القرن الأول الهجري جمع كل مايتعلق بالسيرة النبوية العطرة في كتب منفصلة قد أدت لتنامي منظومة علمية وفنية تستقي مادتها من وحيها. فمنذ تدوين السيرة في مصر في القرن الثاني الهجري علي يد ابن إسحاق المدني وحتي اللحظة, توالي ظهور كم لا حصر له من الدراسات التي تناولت سير رسول الله من زوايا عدة ومن بينها كتب الفقه وعلوم الحديث والسير الخاصة بالصحابة والتاريخ والبلاغة والإبداع, شعرا ونثرا. والحقيقة أن المادة العلمية والفنية الثرية التي نشأت حول السيرة النبوبة المشرفة دفعت بعض الباحثين لتحليلها من منظور فني واعتبار أن سيرة سيدنا محمد التي ألهمت المبدعين قد أسست فنا رائدا من فنون العرب, انتبه إليه القدماء وأكمله المعاصرون علي حد تعبير استاذنا الدكتور شوقي ضيف. ومع بداية شهر رمضان لهذا العام قدمنا قراءة تاريخية لرحلة تدوين السيرة النبوية وأشهر الكتب والدراسات التي ظهرت في مصر والتي بدأت بكتابي ابن اسحاق ومن بعده ابن هشام, فكانت المصدر الذي اعتمد عليه معظم كتاب السيرة وإن تعددت مناهجهم, وصولا الي الكتاب المحدثين مثل العقاد وطه حسين ومحمد الغزالي وخالد محمد خالد وأحمد بهجت وغيرهم. وفي الأسبوع الثاني من هذا الشهر الفضيل نواصل الرحلة مع السيرة العطرة لنقدم قراءة في الأعمال النثرية التي تناولت شخص الرسول الكريم والصحابة ونتوقف أمام منهج الرواية والفرق بين تناول السيرة في الأعمال الدرامية وبين شكل كتابة السيرة الذاتية في الأدب المعاصر. كما نرصد عددا من أهم الكتب التي تناولت السيرة النبوية وخصائصها ومايمكن أن نتمثله من مواقف وأقوال صاحب السيرة العطرة في حياتنا اليوم, فمرحبا بك عزيزي القاريء في روضة السيرة المشرفة في يوم من أيام شهر رمضان المبارك. انبري الكتاب قديما وحديثا في تناول السيرة النبوية المشرفة ومواضيعها. يقول المفكر الإسلامي د. أحمد عمر هاشم لئن كانت الكتابات القديمة تنحو نحو التأصيل والتحقيق والتدوين الدقيق, فإن الكتابات المعاصرة في السيرة رأت أنه قد جد علي الحياة من التطور والتحديث ما يحتاج إلي عرض السيرة عرضا يوضح نماذج القدوة فيها, ولقد اتسمت الكتابات المعاصرة بتحقيق الكثير من الكتب القديمة التي احتاجت إلي شرح وتحقيق. يقول الإمام الزهري في علم السيرة علم الدنيا والآخرة: روي إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها. ويقول د. جمال رجب استاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة قناة السويس: منهجان لدراسة السيرة النبوية منهج التوثيق والضبط, وهو منهج الرواية, ومنهج: العقل والرد علي افتراءات الغربيين وهو منهج الدراية والمنهج الذي ندعو إليه هو الجمع بين الرواية والدراية, فمن المعلوم أن السنة, كما قسمها العلماء إلي سنة قولية وفعلية وتقريرية, ولكن دراستنا للسيرة النبوية تجمع بين كل الرؤي المختلفة, وهناك تفسيرات كثيرة للقرآن الكريم من التفسير بالمأثور إلي التفسير بالمعقول, إلي التفسير الصوفي والإشاري, والتفسير البلاغي, فالسيرة النبوية عندما نتعامل معها وفق منهج الرواية والدراية الذي نؤمن به, وسبق أن دعونا إليه منذ سنوات تعمل علي بناء عقل إسلامي يواجه التحديات المعاصرة. لنضرب لذلك ببعض الأمثلة, فقد قدم العلامة محمد فريد وجدي سلسلة مقالات بمجلة الأزهر الشريف, وقد تم جمعها تحت عنوان السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة, فعندما نتأمل في هذا المؤلف العظيم نجد أن عالمنا الجليل يقدم الدليل العقلي والدليل العلمي علي صحة الرأي, فعندما يناقش قضية النبوة مثلا فهويتنا في ضوء ما وصلت إليه علوم العصر سواء في علم النفس والاجتماع, وغيرها من موضوعات ويستهدي من خلال ذلك بالأدلة علي ثبوت حقيقة الوحي بالدليل العقلي والنقلي معا, فنأتي إلي نموذج آخر يعد مفخرة للمنهج الذي نؤمن به, وندعو إليه, وهو كتاب العلامة محمد فتح الله كولن بعنوان: النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية. ويقول د. عبد الفتاح إدريس أستاذ ورئيس قسم الفقهالمقارن بجامعة الأزهر إن للكتاب المعاصرين في تناولهم لسيرة المصطفي صلي الله عليه وسلم طرقا ومناهج شتي, فمنهم من اقتصر علي تناول جانب أو جوانب معينة من هذه السيرة, ليبرز معني أو خلقا معينا مما تحفل به سيرته صلي الله عليه وسلم, فيسوق لأجل ذلك الوقائع ويحشد الأحداث, وقد عكف كثير من كتاب العصر علي استنباط الاحكام الشرعية من جوانب سيرته صلي الله عليه وسلم, الثرية بهذا الفقه, فكان من ذلك أحكام تتعلق بمسائل الأحوال الشخصية والسياسة الشرعية, وأداء العبادات, اتخاذ دستور ينظم العلاقة بين المسلمين, وغيرهم في البلد الواحد, بحيث يلتزم الجميع به, وتمكين غير المسلمين من اقامة شعائر دينهم دون تعرض لهم, إلي غير ذلك من أحكام شرعية حفلت بها تلك الدراسات المعاصرة عن سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم. ويقول الدكتور: بهاء حسب الله الأستاذ بكلية الآداب: يحسب للمبدعين المعاصرين أن اهتموا بكتابة السيرة علي درجة عالية من درجات الفن والدراما أمثال العقاد وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وطه حسين وعبد الرحمن الشرقاوي وبنت الشاطيء الذين نقلوا فن كتابة السيرة من فن التوثيق إلي فنون الدراما الأدبية الرائعة, فأثروها ثراء ليس بعده ثراء, وميزوها عن بقية فنون الكتابة الدرامية بلمساتهم الأسلوبية والفنية الرائعة, كل حسب مدرسته, فصياغة العقاد تختلف عن صياغة طه حسين عن صياغة محمد حسين هيكل عن صياغة خالد محمد خالد رجال حول الرسول عن صياغة أحمد بهجت أنبياء الله عن صياغة محمد سعيد البوطي في سيرة المصطفي عن صياغة السيد سابق في كتابه فقه السنة ومحمد الغزالي فقه السيرة... إلخ. وقد حرص معظمهم علي صبغ السيرة النبوية بصبغة دراما الرواية بكامل فنونها بداية من صناعة العنوان, وكذلك فنون السرد المستغرق, والحرص علي مفهوم التماسك النصي, وإيجاد العمق الدرامي الموضوعي بكامل عقده وتفاعلاته, والصيغ الموظفة في كتابتها, والحرص كذلك علي بنيات الرواية كالحوار, واختيار المواقف التصاعدية الحبكية, والعقدة المتأزمة, وصناعة الخلفية الدرامية, واختيار راو للأحداث, والوصول إلي مراحل الانفراجة, إضافة إلي الدقة المتناهية في تفعيل دور الشخصية داخل العمل الأدبي. ولذلك فإننا نجد العديد من النقاد الذين درسوا أدب العقاد وطه حسين وعبد الرحمن الشرقاوي يقرنون بين لغة هؤلاء المبدعين جميعا في أعمالهم الإبداعية مثل رواية سارة للعقاد, ورواية شجرة البؤس لطه حسين وغيرها, وبين لغتهم الإبداعية في كتابة السيرة, ورأي الناقد الكبير الراحل رجاء النقاش أن طه حسين والعقاد, حينما كتبا السيرة المحمدية تأثرا كل التأثير بلغة الدراما والحوار وصناعة القصة والرواية ونفس الأمر قيل عن الدكتورة بنت الشاطيء حين كتبت السيرة في كتابها النادر أرض المبعث وكذلك كتابها عن آمنة بنت وهب أم الرسول, وكتابها بنات النبي فقال النقاد إنها اختارت المنهج الدرامي الروائي في نسج الشخصية, وصناعة الأحداث, والأمر نفسه قيل عن عبد الرحمن الشرقاوي وخالد محمد خالد. ويقول د. حلمي القاعود: لعل أول من كتب السيرة النبوية المعاصرة هو رفاعة رافع الطهطاوي, في كتابه نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز وقد حاول أن يلخص فيه ما كتبه القدماء بأسلوب عصري يتفق مع زمانه النصف الثاني من القرن التاسع عشر, وقد ظهر بعده علي تفاوت في المستوي والزمان حتي يومنا هذا, عدد كبير من كتب السيرة تتناولها في مجملها أو تتناول جوانب من حياة الرسول صلي الله عليه وسلم أو أصحابه, مفصلة أو مبسطة في أسلوب مباشر, أو صور أدبية تقترب من السرد القصصي, فقد اشتهر كتاب الرحيق المختوم لصفي الرحمن مبارك فوري, الهندي ت6002 م, ويتميز عن غيره من كتب السيرة باعتماده منهجا جديدا, حيث جاءت في حجم متوسط متجنبا التطويل الممل والإيجاز المخل, وله كتاب آخر بعنوان: روضة الأنوار في سيرة النبي المختار. وقد سبق هذا الكتاب ولحقه عدد كبير من الكتب من أشهرها, سلسلة كتب العبقريات للعقاد وتتناول عبقرية بعض الصحابة رضوان الله عليهم وتاريخهم فضلا عن عبقرية محمد صلي الله عليه وسلم بمنهج نفسي يركز علي طبيعة الشخصية وأعماقها, ويفسر الحوادث علي ضوئها, وكتب محمد حسين هيكل بعد زيارته الحجاز وأداء فريضة الحج في منزل الوحي وحياة محمد والفاروق عمر, وكان الرجل يدعو قبل ذلك إلي ما يسمي القومية المصرية, ولكنه بعد الحج, وقراءته للسيرة النبوية اكتشف ثراء الإسلام وغناه الإنساني وموافقته للفطرة الإنسانية, وأنه الدين الخاتم, وقد اتخذ طه حسين نهجا خاصا فكتب علي هامش السيرة(3 أجزاء) معتمدا السرد القصصي الشائق الذي يصوغ الأحداث في قالب قصصي مؤثر, وكتب توفيق الحكيم كتابا حواريا عن محمد صلي الله عليه وسلم وهناك كتاب السيرة النبوية: دروس وعبر لمصطفي السباعي ونور اليقين لمحمد الخضري بك. الأجيال التالية تناولت السيرة النبوية بأساليب متنوعة منها: فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي, والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي, ومواقف إنسانية في السيرة النبوية لمحمد سعيد البوطي, والتفسير السياسي للسيرة النبوية لمحمد رواس قلعجي, وقصص الصحابة لعبد الرحمن رأفت الباشا, و السيرة النبوية لمحمد متولي الشعراوي, والمنهج الحركي للسيرة النبوية لمنير محمد الغضبان, وفي السيرة النبوية: قراءة لجوانب الحذر والحماية للدكتور إبراهيم علي محمد أحمد, وملخص السيرة النبوية لمحمد هارون... ودراسات في السيرة لعماد الدين خليل, وكتاب السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري.. وقد أفاد عدد من الكتاب لا بأس به من السيرة النبوية في أعمال أدبية سردية قصصية, علي سبيل المثال كتب محمد عبد الحليم عبد الله رواية رائعة عن سلمان الفارسي رضي الله عنه بعنوان الباحث عن الحقيقة وكتب نجيب الكيلاني أكثر من رواية عن مرحلة الدعوة في صدر الإسلام, أو معالجة قضايا معاصرة من خلالها, مثل نور الله في جزءين, ورواية عمر يظهر في القدس و رجال الله وغيرها, وأفاد علي أحمد باكثير من السيرة في بعض أعماله أيضا, كما أفاد آخرون غيرهم بدرجات متفاوتة. والعمل الضخم الذي يمثل تناولا مباشرا للسيرة النبوية, قام به عبد الحميد جودة السحار في كتابه محمد رسول الله والذين معه في عشرين جزءا, وقد نقل إلي عمل درامي ضخم في التليفزيون, حيث قدمت منه عشرات الحلقات علي مدي سنوات عديدة بعد صياغته. وقد قدمت السينما, بعض الأفلام عن ظهور الاسلام والهجرة النبوية, وشارك ممثلون غربيون في فيلم طويل أخرجه الراحل مصطفي العقاد تحت عنوان الرسالة, كما صورت بعض المسلسلات عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم, ويمكن للدراما في التليفزيون والسينما والمسرح أن تفيد فوائد كبيرة من السيرة النبوية, بما فيها من حوادث ومواقف ومعجزات وغزوات وجهاد ومعارك, لو أحسن استغلالها وصياغتها فنيا ودراميا, وهو ما نجحت فيه الدراما الإيرانية مع تحفظنا علي بعض منطلقاتها وتصوراتها. ويقول د. مبروك عطية: والسيرة النبوية فيها مجال متسع للصياغة والحركة, علي العكس من السيرة الذاتية التي يكتبها الأدباء والمفكرون والإعلام عن أنفسهم, وتكون محدودة بوقائع معينة, ولكن السيرة النبوية تتضمن مسيرة أمة وتحولاتها من الجاهلية إلي الإسلام ومن البداوة إلي الحضارة, ومن العصبية إلي التسامح. ويقول الشاعر جابر بسيوني: هناك أعمال تحدثت عن السيرة النبوية كتاريخ وسرد وقائع, وأحداث مثل أعمال الراحل أحمد أمين, وكانت أعماله مهمة كشفت لنا جوانب, لم تكشف من قبل, وجاءت أعمال أخري لكل من الدكتور محمد حسين هيكل, والدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد, وتعرضت للسيرة النبوية وحياة سيد الخلق سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم في جوانب تأملية وفكرية, وقدمت فيها الآراء واتفقت واختلفت, وقد قدم ذلك كله الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في كتاب له بعنوان محمد صلي الله عليه وسلم في أعمال هؤلاء, وأري أن كل ما قدم من كتابات نثرية في مجال السيرة النبوية للراحل عبد الله عنان, قد تعرضت باتقان لهذا الموضوع فضلا عن اعادة طبع كتب أخري مهمة مثل حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل. مشيرا إلي أعمال كثيرة تعرضت تاريخيا للسيرة النبوية منها أعمال العالم الجليل الشيخ أحمد شاكر2981 8591 في مجال تحقيق أصول كتب السنة ومنها تحقيق مسند أحمد بن حنبل وهو أضخم دواوين السنة, وكان عمل الشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند عظيما, ويحتاج إلي اعادة طبع, وطرح لكي نفيد منه.. وأيضا يجب الالتفات إلي كتاب الرحيق المختوم وهو بحث في السيرة النبوية لفضيلة الشيخ صفي الرحمن المبارك فوري رحمه الله من تميز في الشمول للسيرة النبوية وآثارها إبراز ما يهم كل مسلم من غير دخول في جدل أو حشو أو إضافات. وعن الفرق بين السيرة النبوية والسيرة الذاتية يقول د. عمر هاشم: إن السيرة النبوية المطهرة علي صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام مصادرها الكتاب الكريم والسنة الصحيحة والأخبار الموثقة, فكل ما تحمله حق وصدق, أما السير الذاتية فمنها الصحيح ومنها غير الصحيح ومصادرها بشرية قابلة للخطأ والصواب.كذلك فإن السيرة النبوية نقلت جميع الحياة النبوية الشريفة برمتها, ولا توجد في حياة الرسول صلي الله عليه وسلم أخبار خفية ولا صفحات منسية, بل جميع حياته رصدت ونقلت سرها وعلانيتها, وسلمها وحربها, ونقلت عباداته ومعاملاته وأقواله وأفعاله وصفاته, حتي الأمور الشخصية والأشياء الخاصة. أما السيرة الذاتية, فلا تري فيها نموذج الكمال البشري الذي يوجد في السيرة النبوية, لأن السيرة النبوية تصور حياة أطهر من مشي علي الأرض, وخير خلق الله جميعا الذي اصطفاه ربه وأثني علي أخلاقه في قوله تعالي: وإنك لعلي خلق عظيم. إن لكتابة هذه السيرة وظيفة تغاير تمام المغايرة الوظيفة التي تراد من السيرة الذاتية, ولذا اختلفت عنها منهجا وأسلوبا وغاية ووظيفة.