في تاريخ الإنسانية ومضات من نور, بعضها يخفت أو يتواري بعيدا فلا يبق منها سوي شذرات تلوح بين الحين والآخر في لحظات تجبرنا علي العودة إليها واستدعائها في لحظة بعينها.. وأخري لا تخبو قط, فيظل شعاعها دائما أبدا نورا هادئا يبدد ظلمة الطريق ووحشته, كسيرة المصطفي عليه أفضل الصلاة وأزكي السلام. ولأن القرآن الكريم والحديث الشريف كانا ومازالا حجر الزواية في فهم الاسلام بصورة صحيحة وإزالة أي تأويل خاطيء أو فهم مغلوط لحق به أو اختلط بمنهجه, فقد حرصت دنيا الثقافة علي مدي شهر رمضان في السنوات السابقة أن تمضي أيام وليالي الشهر الفضيل في رحابهما.. تستطلع الجوانب والقضايا التي ارتبطت بهما وتركت بصمة علي التاريخ الوجداني والفكري لملايين البشر أيا كانت ملتهم وتجسدت في حضارة نشأت حولها فنون وعلوم دينية ودنيوية ومذاهب فكريةوتيارات أدبية.. فعشنا علي مدي أيام شهر رمضان المبارك مع صفحات النور المسطور منذ تاريخ تدوين الوحي وجمع المصحف وعصر طباعة المصحف في أوروبا ثم في مصر بلد الأزهر, التي نهضت بدورها في تطوير طباعة وشكل المصحف ونقلت التقنية لباقي الدول الإسلامية, والفنون التي ظهرت في رحابه مثل الخط العربي وجماليات الحروف والشكل الذي استقر عليه المصحف الشريف وتحول الحروف من مجرد وسيلة للتدوين الي حالة وجدانية وفن أصيل انتهاء بالجدل حول ورود كلمات بالقرآن الكريم قيل إنها أعجمية من منظور العلماء والأئمة والمناهج التي تطرحها بعض نظريات النقد اللغوي, وقضية ترجمة معانيالآيات البينات للغات الأجنبية. وفي رحلتنا مع جوامع الكلم( الأحاديث النبوية الشريفة) حاولنا استكشاف الرؤي والأبعاد الثقافية والعلوم التي تبلورت حول الاحاديث النبوية واستجلاء ملامح أدبيات الأحاديث من حيث اللغة والاسلوب والبيان والبناء القصصي الواضح في عدد لا يستهان به من الأحاديث. وفي عامنا هذا كان الاختيار أن نمضي الشهر الكريم في رحاب السيرة النبوية العطرة لسيد الخلق من خلال تقديم قراءة ثقافية للعلوم والفنون التي نشأت حولها. فلقد استلهم المبدعون العرب السيرة نثرا وشعرا وقدموا ملامح منها في القصص الشعبي. الأكثر من ذلك ان عددا لا يستهان به من مسلمي ومسيحيي الشرق ومستشرقي الغرب تناولوا السيرة النبوية من أكثر من منظور, بداية من خروجها من مصر في القرن الثاني الهجري علي يد ابن اسحاق المدني مرورا بابن هشام والطبري وابن كثير والجوزي حتي أحمد أمين في سلسلته فجر الاسلام وضحي الاسلام والعقاد في عبقرية محمد وطه وحسين في علي هامش السيرة وشوقي ضيف وغيرهم. بل إن المادة العلمية والفنية الثرية التي نشأت حول السيرة النبوية المشرفة دفعت بعض الباحثين لتحليلها من منظور فني واعتبار أن سيرة سيدنا محمد( صلي الله عليه وسلم) قد أسست فنا رائدا من فنون العرب, وبالتالي تدارسوا لغتها وصيغها الفنية الأعمال الدرامية المستوحاة منها والبعد التاريخ ومناهج تدوينها. ملفات نفتحها علي مدي شهر رمضان المعظم ليس فقط استكمالا لرحلة بدأناها مع النور المسطور( القرآن الكريم) وجوامع الكلم( الأحاديث النبوية) أو لأن السيرة النبوية أهم مصادر الفهم الاسلامي الصحيح, إذ كان رسول الله صلي الله عليه وسلم أول وأعظم من فهم القرآن الكريم, وفسره قولا وعملا ( اذ قالت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها: خلقه القرآن أو كان قرآنا يمشي علي الأرض) , بل أيضا لأن النفس البشرية التي يستهويها الخيال والحكي والرغبة في معرفة أخبار الأولين قد تجد في السيرة العطرة وفيما حولها من فنون زادا يعينها علي استرجاع قيم ومواقف تضبط الفهم الاسلامي بعيدا عن الغلو أو الخطأ أو التعسف وتسهم في محاولة الاقتداء بالرسول الكريم في مواقف حياتنا المعاصرة. صفحات نعيد قراءتها معكم, ونبدأها اليوم بقراءة في تاريخ تدوين السيرة العطرة. نرجو من الله أن يوفقنا في مهمتنا ومرحبا بك عزيزي القاريء رفيقا علي مدي أسابيع شهر فضيل وعمرت أيامه ولياليه بنور آيات الذكر الحكيم وبهدي أحاديث وسيرة رسول الله..