في البداية أكدت جميع مصادر هذا الملف المكانة العالية التي تحتلها السيرة النبوية في تاريخنا العربي وفي التراث الانساني. وأوضحوا أن مصادرها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.. وحياة أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وتاريخ أصحاب القرون الأولي. يقول المفكر الإسلامي د. أحمد عمر هاشم إن تدوين السنة المشرفة كان بعد كتابة القرآن الكريم اذ أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان قد نهي عن كتابة الحديث في بدء الأمر حتي لا تنصرف الهمم عن كتابة القرآن الكريم, إلا أنه أذن لبعض الصحابة المجيدين للكتابة بكتابة الحديث, وكان هذا باكورة مرحلة الكتابة. فكانت له صحيفة تسمي الصحيحة, وكان لجابر بن عبد الله صحيفة ثانية, كما كان لعبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة ثالثة تسمي الصادقة. وهذا يدل علي انه كانت هناك كتابات خاصة قبل التدوين الرسمي. وكان أول من وضع قوانين الرواية أبو بكر الصديق رضوان الله تعالي عليه, وتبعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وسائر الصحابة وقد سار الصحابة علي طريق التثبت من الراوي ومن المروي, ومنع الصحابة الرواة من أن يحدثوا الناس بما يعلو علي فهم العامة, لأن في هذا مدعاة إلي تكذيبهم للمحدث فيما لا يفهمونه فعن عبد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم الا كان لبعضهم فتنة. وكانت المصادر الأصيلة في السيرة النبوية منذ عهد التابعين الذين تلقفوا سيرة رسول الله صلي الله بعناية فائقة مثل عروة بن الزبير وابن شهاب الزهري, ثم ظهر من المصنفين في السيرة محمد بن اسحاق المتوفي عام251 ه ثم ظهرت طبقة أخري مثل الواقدي المتوفي سنة702 ه ومحمد بن سعد صاحب الطبقات الكبري. ويقول د. حلمي محمد القاعود إن السيرة النبوية هي كل ما يتعلق بحياة الرسول صلي الله عليه وسلم من نسب وتاريخ وأحداث ووقائع وأقوال وأفعال وشخصيات ارتبطت به وبالصحابة رضوان الله عليهم وما جري من غزوات وفتوحات تمت في حياته. وبعض السيرة كان موجودا في الاحاديث الشريفة. وقد تأثر مدونو السيرة بالحديث وقواعد تدوينه فاعتمدوا علي قواعد علمية تشبه قواعد مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل. فكتب كل من سعيد بن المسيب وعبيد الله بن كعب والشعبي وغيرهم مصنفات في السيرة النبوية. في النصف الثاني من القرن الأول الهجري أخذ تدوين السيرة النبوية منحي متكاملا, فظهرت مجموعة من المدونات لتقدم السيرة في جوانبها المهمة وخاصة الجانب الجهادي, فقد كان أول من عرف بالمغازي والسير, عروة بن الزبير( ت39 ه) الذي ألف كتاب مغازي رسول الله صلي الله عليه وسلم, وأبان بن عثمان بن عفان( ت501 ه) وقد ألف كتاب السيرة والمغازي نحو سنة(38 ه), وكتب في المغازي والسير وهب بن منبه وموسي بن عقبة( ت141 ه) والإمام محمد بن شهاب الزهري, عالم الحجاز, والشام, وهو من الثقات في الرواية, وسيرته أول سيرة ألفت في الإسلام, وهو من أوثق السير وأصحها, واعتمد عليه ابن إسحاق كثيرا في السيرة توفي سنة(021 ه)... ويتفق كل من د. حلمي القاعود ود. محمد يونس عبد العال استاذ الأدب بجامعة عين شمس وتبع هؤلاء مدونون كتبوا كتبا شاملة في السيرة النبوية مثل محمد بن إسحاق( ت151 ه), وقد محص هذه السيرة واختصرها ابن هشام( ت312 ه) في كتابه الذي اشتهر باسمه( سيرة ابن هشام). وهناك كتاب المغازي للواقدي, وكتاب الطبقات لابن سعد, وتاريخ الطبري, والبداية والنهاية لابن كثير, والكامل في التاريخ لابن الأثير, وسير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي( ت847 ه), وكتاب الشمائل للترمذي, والمواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلاني ومختصره الأنوار, وكتاب دلائل النبوة للبيهقي, ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني و دلائل النبوة للماوردي, والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني, وأسد الغابة لابن الأثير الجزري, وشرح السيرة النبوية لأبي ذر الخشني, والروض الأنف للسهيلي, وكتاب الخصائص الكبري للسيوطي, والوفا بأحوال المصطفي لأبي الفرج عبد الرحمن الجوزي, وكتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفي للقاضي عياض اليحصبي. منهج كتابة السيرة وعن منهج كتابة السيرة يقول د. مبروك عطية انها تمضي علي سنة واحدة ككتب الثقة التي تبدأ بالطهارة, وتنتهي بأمهات الأولاد, فسنة أصحاب السير أن يعرفوا بنسب الرسول صلي الله عليه وسلم وما كان عليه العرب في الجاهلية, والبعثة النبوية, ثم الهجرة إلي الحبشة, فالهجرة إلي المدينة, فالغزوات, ابتداء بما كان من سرايا صغيرة قبل بدر, ثم بدر, إلي فتح مكةالمكرمة, ثم وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم ذكر أزواجه, وخلاصة لغزواته وسراياه, وذكر بعض شمائله التي عني بها القاضي عياض, وبعض المعاصرين. ويوضح د. محمد محمود أبو حطب وكيل وزارة الأو قاف أن مختصرات السيرة النبوية دورها في تكريس منهج العرض كما في الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر( ت 036 ه)..( وجوامع السير لابن حزم الأندلسي( ت954 ه)... وإمتاع الأسماع بما للرسول من الأحوال الخمرة والمتاع للمقريزي ت548 ه.. ومختصر سيرة الرسول لمحمد بن عبد الوهاب.. ودخلت الشروح علي بعض كتب السيرة فأجلت نصوصها وبيئتها ويقف في الصدارة منها.. الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام الذي ألفه عبد الرحمن السهيلي( ت 85ه).. وكتاب الشفا في حقوق المصطفي للقاضي عياض, وكتاب حياة محمد لمحمد حسين هيكل5391 م, وهذا الكتاب مثل دراسة تاريخية ردت علي أباطيل المستشرقي.. لكن المحطة الأبرز تحولا كانت في عمل رفاعة رافع الطهطاوي عام0781 م في كتابه نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز( صلي الله عليه وسلم) فقد التزم الخط العام في منهج كتابة السيرة النبوية, لكنه وضع الروايات في اطار سردي منتظم.. ويتفق كل من د. محمد جبر أبو سعدة الاستاذ بجامعة الأزهر ود. بهاء حسب الله بجامعة حلوان أن أما السيرة النبوية لمحمد بن إسحاق فكان حظها من الذيوع والانتشار كبيرا أبدا والحمد لله, بل يمكن القول: إنها أكثر كتب السيرة تداولا بين أيدي العلماء والقراء منذ وجودها وحتي يومنا هذا, ولقد تكرر نشرها بتحقيق محمد حميد الله في المغرب, وفي الشام بتحقيق سهيل زكار وغيرهما من البلاد, أما أشهر طبعاتها, فهي السيرة التي هذبها ونقحها عبد الملك بن هشام المعافري( ت812 ه), ونشرت محققة عدة مرات في مصر وأقطار أخري, واشتهرت تحت عنو ان( السيرة النبوية لابن هشام). ثم يتوالي اهتمام العلماء بالسيرة النبوية, لتصبح أحد أهم العلوم الاسلامية المستقلة بشخصيتها ومعالمها المميزة, وذلك قبل انتهاء القرن الثاني وأوائل الثالث الهجري فظهرت المصنفات المتكاملة التي وصل إلينا بعضها مثل: كتاب المغازي لمحمد بن عمر الواقدي( ت702 ه) والطبقات الكبري لمحمد بن سعد الزهري( ت032 ه) وقد طبع الكتابان أكثر من مرة. أشهر كتب تدوين السيرة يقول د. محمد يونس عبد العال الاستاذ بجامعة عين شمس لم يخل عصر من العصور ولا بيئة من البيئات من مصنفات تحدثت عن الرسول الكريم. وعلي هدي سيرة ابن هشام كثرت المؤلفات, ومن أشهرها وأوفاها: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير, وهي سيرة مفصلة لم يكتف فيها مؤلفها أبو الفتح محمد بن محمد بن أحمد اليعمري الأندلسي( ت437 ه/4331 م) المعروف بابن سيد الناس بما في كتب السيرة, كسيرة ابن هشام, بل أضاف إلي ذلك مراجعات علي كتب الحديث, مثل صحيح البخاري. السيرة ومصر وهنا يشير د. بهاء حسب الله أستاذ الادب بجامعة حلوان السيرة النبوية للمصطفي صلي الله عليه وسلم, إلي أن تعتبر فنا رائدا من فنون العرب, لأنها ومنذ زمن ابن إسحاق, ومن بعده أمثال ابن هشام والطبري وابن كثير وابن القيم الجوزي وغيرهم, كتبت بصياغة تخرج عن كونها مجرد وثيقة تاريخية من وثائق العرب الخالدة تؤرخ لحياة نبيهم الأمين ورحلته علي مدي أكثر من ستين عاما, ولكنها صيغت بلغة فنية عالية الجودة, فائقة التميز, بعيدة الأثر, ذات مناهج مختلفة, وتم تضمينها في معظم كتب السير بجم فنون العرب القديمة مثل فنون الشعر وبنياته الفنية المختلفة, ومحسناته البديعية, وفنون النثر المتباينة كالسجع وحسن التقسيم والصيغ الفنية الموسيقية وغيرها, ولذا حكم النقاد المعاصرون أمثال الدكتور شوقي ضيف وزغلول سلام وأحمد بدوي وغيرهم علي( السير النبوية) المتلاحقة بأنها فن من فنون العرب, له خصوصيته الفنية, وبنيته الخاصة, حتي حينما كتبها المعاصرون أمثال الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه( حياة محمد) والعقاد في كتابه( عبقرية محمد) وطه حسين في كتابه( علي هامش السيرة) وأحمد أمين في سلسلته( فجر الإسلام) و(ضحي الإسلام), والدكتورة بنت الشاطيء في كتابها النادر( أرض المبعث) ومجموعة كتبها التي تتصل بالسيرة بصفة مباشرة أو غير مباشرة مثل كتابها( بنات النبي) وكذلك كتابها النادر أيضا( أرض المعجزات).. إلخ كتبوها جميعا بلغة درامية ذات حس فني عال, وبناء سردي متميز يقارب فنون القصة والرواية, ولذا لم نعجب ونحن نري تلك الكتابات والمؤلفات تحول إلي أعمال درامية فنية للسينما المصرية وللشاشة الصغيرة, وقد كتب السيرة النبوية في العصر الحديث العشرات والعشرات من المفكرين أمثال خالد محمد خالد والشيخ محمد الغزالي والسيد سابق وسيد قطب ومحمد سعيد البوطي وأحمد بهجت( أنبياء الله) وعبد الرحمن رأفت باشا وبنت الشاطيء, وغيرهم العشرات ممن يضيق المجال لحصرهم. اذن فنحن أمام فن عربي من فنون العرب, انتبه إليه القدماء بوعي مقصود, وأكمله المعاصرون, والغريب بل والعجيب أن تخرج أول سيرتين للمصطفي صلي الله عليه وسلم من مصر الكنانة في ذلك التاريخ, ومن يرجع لسيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام يجد أن كلا الرجلين قد جاءا إلي مصر من الحجاز والبصرة منذ القرنين الثاني والثالث الهجري لتدوين السيرة بها لا لشيء سوي لوجود العشرات من أئمة السيرة بالكنانة الذين جاءوا إلي مصر منذ القرن الثاني الهجري واستوطنوها, ونقل عنهم معظم من كتب السيرة في تلك الفترة, ومن هؤلاء الأئمة عبيد الله بن المغيرة ويزيد بن حبيب وتمامة بن شقي والأعرج وغيرهم.. الأمر الذي دفع الدكتور شوقي ضيف في كتابه( الأدب في العصر العباسي) لأن يقول:( هنيئا لمصر أن خرجت منها السيرة النبوية علي يد ابن إسحاق وابن هشام).