ماذا قدمنا لنجيب محفوظ؟!،سؤال ينفتح على واقع سياسى وثقافى تائه ومأزوم، لا يحتفى بأبطاله الحقيقيين، ولا يتذكر رموزه إلا فى المناسبات!. ولكن هل من استعادة حقيقية لنجيب محفوظ؟!. ربما تبدأ استعادته الحقة عبر قراءة جديدة لأعماله، قراءة بنت وعيا راهنا وخيالا جديدا، فنجيب الذى تمثل استعادته استعادة لروح مصر الباحثة عن عالم أكثر جمالا وحرية، لم يقدم لنا شيئا سوى ما يتقنه حقا، كراسات من الإبداع الفارق، دفعت به صوب نوبل، ومن قبلها صوب تأسيس حقيقى للسرد العربى على نحو مختلف ومغاير عما سبق من جهود الرواد، أما المدهش فيتمثل فى التجدد المستمر الذى صاحب محفوظ فى أعماله الأدبية، حتى أصبحت عنوانا على المجاوزة والتخطي، وعبور السائد والمألوف. نجيب محفوظ صاحب الحس الاستشرافى الذى بدا فى روايتيه (ميرامار)، و(ثرثرة فوق النيل)، والذى كان يحذر فيهما من كارثة ما، ربما تحيق بوطن خانت فيه الطبقة البرجوازية من تمثلهم، وعملت النخب الثقافية والسياسية دور كتائب التبرير، واقع تخلى فيه (سرحان البحيري/ ممثل الاتحاد الاشتراكي) فى رواية (ميرامار) عن ابنة طبقته الاجتماعية (زهرة)، ودهس أحلامها قبل أن يدهس ثقتها فى واقع جديد يتشكل تحت عباءة ثورة يوليو، خيانة تحيلك إلى خيانة أخرى مماثلة بطلها (رءوف علوان) الصحفى الانتهازى المتلون كالحرباء فى (اللص والكلاب) حين تخلى هو الآخرعن صديقه القديم وتلميذه (سعيد مهران)، لنصبح أمام لصين ، أحدهما لص تقليدي (سعيد مهران)، والآخر لص للأفكار(رءوف علوان)، وربما تحمل دلالات الأسماء معانى تأويلية بديعة هنا، يقف من خلالها محفوظ على عتبات الاستخدام الذكى للدلالة الضدية للاسم، فلا سعيد مهران كان سعيدا، ولا كان رءوف علوان رءوفا بناسه وطبقته!. كما لم تكن حفنة المثقفين المغيبين في (ثرثرة فوق النيل) سوى تعرية لواقع قابل للتكرار، تتآكل فيه النخب الثقافية وتتمحور أمانيها حول مصالحها الذاتية، وأطماعها الرخيصة. بدا نجيب محفوظ أيضا واعيا بتحولات النوع الأدبى اللانهائية، وبتطورات الرواية واستجابتها الجمالية لعالم يتغير بالأساس، ولواقع يتعقد ويتشابك، ولفن له اشتراطاته الجمالية المتجددة، والقابلة للاستعارة من أجناس أدبية أخرى، ومن ثم رأينا نجيب محفوظ يمر بذكاء على مناحى مختلفة للرواية، يتعاطى فيها مع التاريخ تارة، مثلما رأينا فى بداياته: (عبث الأقدار / رادوبيس / كفاح طيبة)، أويرصد الواقع الاجتماعى ويحلله تارة أخري، مثل: (القاهرةالجديدة/ خان الخليلى / زقاق المدق/ / بداية ونهاية)، أويشتبك مع الواقع السياسى ويعرى تناقضاته تارة ثالثة مثل : (اللص والكلاب / ثرثرة فوق النيل / ميرامار)، أو يؤسطر العالم متكئاعلى البناء الرمزي، كما فى (أولاد حارتنا)، خارجا بالنص إلى فضاءات دلالية أكثر رحابة، أو ينحو تجاه مساحات أشد من الفانتازيا، وإفساح طاقات التخييل كما فى (رحلة ابن فطومة) و(ليالى ألف ليلة)، وفى كل يبدو نجيب محفوظ قابضا على أسئلة الكتابة وجمرها المتقد، ساعيا إلى منح النص الروائى بعدا تجريبيا جديدا، وبما يتسق مع طبيعة نظرته للكتابة بوصفها بنتا للتراكم المعرفى والجمالي، ومن ثم فلا نص حقيقى دون أن يكون هاجس التجديد شاغلا له. ومن ثم بدا توظيفه للأمكنة مثلا بدءا من توظيف العنوان/ المكان ليصبح بمثابة البنية الدالة القادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردى للرواية، ففى رواية (زقاق المدق) يبدو المكان قادرا - بمحدوديته وحشر الناس بداخله - على أن يخلق سياقا نفسيا له طبيعته الضاغطة على نفسية (حميدة) بطلة الرواية، و(ميرامار/ البنسيون) علامة دالة على مكان حاوٍ لبشر متنوعين، لا يسعهم سوى فندق قديم فى مدينة كوزموبوليتانية (الإسكندرية). فالمكان فى روايات محفوظ إذن لم يكن فضاء ماديا فحسب، ولكنه - وبالأساس - سياق نفسى يحوى انفعالات البشر ودواخلهم. أما الزمن فيراه محفوظ موصولا بأزمان عدة تتصل بالوجود، وبالنفس البشرية، وبالراهن المعيش، مثلما ينفتح على التاريخ، معيدا قراءته، ومنحازا- فى هذا كله- إلى أولئك العاديين، وإلى كتابة تاريخ الجماعة الشعبية. نجيب محفوظ الذى منحنا عبر نصوصه الفاتنة أملا فى غد أكثر عدلا وإنسانية، وانتصر لناسنا من البسطاء والمهمشين، فكان نصه تاريخا للمقموعين بحق، وتأريخا جماليا لمن لم يقف عندهم التاريخ، هذا المبدع الفذ فى تاريخ السردين العربى والعالمي، تعرض للعسف النقدى فيما قبل حصوله على جائزة نوبل تارة، وتعرض للإقصاء والتهميش تارة أخري، حين طغت الأيديولوجيا على الفن، وبات كتاب أقل موهبة أكثر حضورا منه فى سنوات الخمسينيات، على نحو ما رأينا فى ذلك التعاطى النقدى الكرنفالى مع بعض الروايات الحاوية أيديولوجيا زاعقة، ثم كانت الطامة الكبرى فى سنوات التسعينيات حين طالت محفوظ يد الإرهاب الآثمة، عبر طعنة نافذة تسددها قوى التطرف والرجعية للعقل الإبداعى المصرى فى أشد تجلياته خلقا وابتكارا. كارثة لا تحدث إلا فى بلدان لا تعرف قيمة مبدعيها، فنجيب الذى حرر الوعى المصرى بكتاباته التى صاغت وجدانا جمعيا جديدا ومختلفا، سعى المتطرفون لاغتياله، ويده التى دافعت عن المقولات والقيم الكبري (الحق والخير والجمال)، تطعن بسكين غادرة يحملها أصحاب الهوس الديني. وبعد.. يبقى نجيب محفوظ شامخا بنصه المتمترس فى الوجدان العام والضمير الثقافى العربى رغم كل إرث الاستبداد والرجعية وطعنات الغدر والخيانة والمتاجرة بالدين وبالوطن، معيدا إيانا لمعنى الكتابة حين ترنو صوب الحرية وتسائل القمع وتحاكمه، فتقدم لنا معنى فريدا ونبيلاعن الحياة والعالم والأشياء. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله