بدا اتساع مدلول الثقافة جزءا من رحابتها، وتعقدها في آن، بوصفها مفهوما مركبا بالأساس، وإن بدت في أشد تجلياتها خلقا تبغي ما طرحه الشاعر والناقد توماس إليوت من أنها «هي ما تجعل الحياة جديرة بأن يحياها الإنسان» وفي جدله العميق مع ماهية الثقافة وتحولاتها يشير المفكر والناقد الإنجليزي تيري إيجلتون في كتابه «فكرة الثقافة» إلى طغيان فكرة الثقافة وبروز أهميتها عندما تتاح شروط التحرر السياسي الذي يبغيه شعب ما، ومن ثم تبقى الثقافة فعلا جوهريا للأمم يتكئ على المساءلة والخيال النقدي الجديد. وقد حملت التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الثقافة بشأن التشكيل الجديد للمجلس الأعلى للثقافة تساؤلات جوهرية حول وعي السلطة بطبيعة الدور الذي ينهض به المثقف، من حيث معناه، وماهيته في آن، فالكلام الذي جاء في معرض الحديث عن التشكيل الجديد/ القديم للمجلس الأعلى للثقافة يكشف وبوضوح عن محاولة دءوب من قبل الوزير لتثبيت اللحظة الثقافية وتأبيدها عند مرحلة ماضوية من عمر الثقافة المصرية الولود والمتجددة، حيث قال نصا: «وأن عضوية المجلس وفقا لتقاليده هي عضوية مدى الحياة لرموز العمل الثقافي في مصر تجدد لمدة عامين بموجب قرار يصدر من رئيس مجلس الوزراء»، وبعيدا عن التناقض الكامن في التصريح المشار إليه، بين العضوية السرمدية التي وصفها الوزير بأنها «مدى الحياة»، وأنها تجدد كل عامين في الآن نفسه!، أما الأدهى فيتمثل في محاولة إقصاء العقل الطليعي الجديد في الثقافة المصرية وبما أفضى إلى تراجع الدور الثقافي المصري طيلة الأربعين عاما الماضية حيث بدت السياسات الثقافية تفتقر إلى ذلك الخيال الجديد، تراوح في مكانها، وأصبحت الثقافة الحقيقية لا تنتجها المؤسسة الثقافية الرسمية، بل ينهض عليها مثقفون من خارج الإطار، لديهم قدرة على إنتاج أفكار جديدة من جهة، والكشف عن الوجه الطليعي الجديد للثقافة المصرية وتقديم المشاريع الإبداعية المطمورة من جهة أخرى، وأصبحت الثقافة الرسمية ممثلة للعقل التقليدي المحافظ في مقابل العقل الطليعي الجديد الذي يمثله المثقفون غير الرسميين. وربما تبدو المفارقة بارزة بين سلطة سياسية ناشئة تتطلع لبنيان جديد، وسلطة ثقافية عجوز ومترهلة، وبما يكشف عن حال من سوء الاختيار من جهة، وعبثيته من جهة ثانية، لنصبح في نهاية المطاف أمام إعادة إنتاج لنظام مبارك الثقافي بما حواه من طابع كرنفالي، وتكريس لصيغة التحالف بين الفساد والرجعية، والفرار من معركة الثقافة الحقة في تحرير الوعي المصري وتنويره، فضلا عن تثويره المبتغى بعد ثورتين مجيدتين. إن المثقف الذي يجب أن يكون أعلى تمثيلات الحقيقة ذ بتوصيف إدوارد سعيد- يسقط معنى وجوده الآن، حين يؤمم الحاضر، ويصادر المستقبل لمصلحة إنتاج الماضي، فتغتال الثقافة بدم بارد، والمحصلة النهائية لا شيء سوى جملة من التصريحات التي لم تغادر حلوق متحدثيها إلى الواقع الحياتي للمصريين، ومن ثم لا تستعاد الثقافة بوصفها أداة لإنتاج المعنى والقيمة والنظر الجديد للعالم والأشياء. وبدلا من أن تسعى الثقافة الرسمية إلى محاولة تشكيل العقل العام، وتجديد أدواته، تصر على العيش في الماضي، والانقطاع عن متن اللحظة الراهنة، يدعم ذلك أن القائمين على الثقافة أبناء لعهود قديمة، وتصورات ماضوية عن العالم، لكن المدهش حقا أن ذلك يحدث في مصر الآن!، وبعد كل الدماء التي سالت، والشهداء الذين سقطوا، والثورة التي تحاول النخب المزيفة تغييب معناها وتقزيمه. يبدو أن إدراك تعقد اللحظة الراهنة وتشابكها بات عصيا على وزارة الثقافة، فلا هي حملت تعبيرا عن نفس جديد في الثقافة المصرية، ولا هي خاضت معركة الأمة المصرية ضد قوى التخلف والرجعية، واكتفت بالبيانات وحدها دون فعل ثقافي على الأرض، وكان لا بد من تقديم تصور واضح المعالم بعيدا عن الرطان الفارغ للدور الذي يمكن للثقافة أن تلعبه في مقاومة الأفكار المتشددة، ومجابهتها، والانتصار للفكرة التقدمية المحضة دون توازنات سخيفة، ولا حسابات سلطوية ضيقة. أما المنتج الثقافي ذاته فقد ظل بعيدا عن واقع الناس، لأن الوزارة تعتقد أنها حكر على مجموعة من المثقفين، وليست وزارة لتثقيف الشعب المصري، وهو المنطلق الذي يجب أن يبدأ منه أي تصور جديد عن راهن الثقافة الرسمية. تغيب المشاريع الثقافية حين تغيب الرؤية ، وتشوش، وترتبك، بفعل المصالح والحسابات الرخيصة، وانتهازية البعض، والمحصلة النهائية ساعتها خروج من الزمن، وانحطاط تاريخي، وتراجع للقوة الناعمة ، والتي باتت الدولة المصرية في حاجة ماسة إليها الآن في ظل تعقد الملفات الخارجية وتشعبها في آن. يبدو استحضار الماضي عنوانا على إخفاق شديد في التماس مع الراهن، وصوغ سياساته الثقافية، وبما يعني غيابا للمشروع الثقافي المصري المعبر عن توجه حضاري يليق بأمة ترنو صوب عالم أكثر جمالا وعدلا وإنسانية، ومن ثم لا تجد أثرا للمؤسسة الرسمية في القضايا المفصلية للثقافة من قبيل حرية الرأي والتعبير، وحرية الإبداع، فيسجن الكتاب بسبب نصوصهم الإبداعية، ولا تحرك المؤسسة ساكنا لذلك! إن التعويل على المؤسسة الثقافية الرسمية في إنتاج ثقافة طليعية ومختلفة، يعد ضربا من الخيال، ومن ثم فعلي المثقف المصري المؤمن بناسه، والمدرك قيمة الثقافة مبنى ومعنى، أن يستعيد قيمة المثقف العضوي المنحاز إلى واقعه، والمعبر عنه، خاصة أن الثقافة المصرية في امتداداتها الحقيقية تظل خصبة، وولودا، ومسكونة دوما برهانات التغيير، لكنه تغيير بمنطق المثقفين لا الموظفين، وفي مجرى الكتابة وواقعها، الذي لا يعرفه سماسرة الثقافة وتجارها الجدد.