أرى أن مؤسساتنا التعليمية بأكملها لم تعد صانعة للعقول، بل صارت في غاية العبثية، وتحولت فلسفتها التعليمية من بناء العلماء والخبراء واكتشاف المواهب، إلى اعتصار الطلاب والتلامذة لجني الأموال من خلال الدروس الخصوصية، دون أدنى نظر إلى بناء شخصية خبير مؤهل لحمل أمانة الوطن، ومن المعلوم أن العقل على ثلاث مراتب: عقل سطحي، وعقل عميق، وعقل مستنير. * أما العقل السطحي: فهو الذي تعوّد أن يقف عند ظواهر الأمور، ويكتفي بإدراكها والعبور عليها، دون غوص ولا فكر ولا تحليل، فهو مشغول دائما بالأحداث والأشخاص، يلهث وراء مجريات الحياة التي لا تنتهي، ويغرق في ضجيج الحياة، وأحوال الأشخاص، وشئون معيشتهم، وهو شغوف بمعرفة من باع ومن اشترى، ومن خاصم ومن صالح، ومن تزوّج ومن طلّق، ومعرفة الأسواق، والأسعار، والأقارب، وما جرى بينهم، ومن مرض منهم، ثم كيف شفي، ولماذا، ومعرفة ما يقع يوميا من الأولاد وزملائهم، والجيران وجيرانهم، ورفاق العمل ومشكلاتهم، وكثيرا ما يقع لهؤلاء جميعا إشكالات ووقائع، وقضايا، فيغرق ذلك العقل فيها، وفي تطوراتها، وفي تداعياتها، ويظل طوال العمر وهو يغوص في تلك الرمال المتحركة، حتى يتحول ذلك العقل بالتدريج إلى مستوى شديد التفاهة، لا يعرف من الأمور إلا ضجيجها وتسارعها وتقاطعها. * العقل الثاني: عقل عميق: ينظر إلى الأحداث والأشخاص والأحوال والوقائع، فيعرفها ويدركها، لكنه لا ينشغل بها، ولا يتوقف عندها، ولا يكتفي بسردها والحديث عنها، بل يرتقي إلى تأمل ما وراءها من قضايا، وما يتسبب فيها من أفكار، وكلما طرأت عليه أحداث الحياة بضجيجها وصخبها وزحامها، انصرف عن ذلك كله إلى ما يحرك كل ذلك من عوامل، فتتجرد في نظره كل الأحداث من أثوابها وزخارفها، حتى يرى بوضوح من أين تبدأ وتنشأ، وإلى أين تمضي وتؤول، فهو يرى كل أحداث الحياة من منصة عالية، تسمو فوق أحداثها الصاخبة المتلاحقة اللاهثة، فلا ينجرف في جزئياتها، ولا تغمره بأمواجها، بل يراها من أعلى، من منظور (عين الطائر) كما يسميه هواة التصوير، فكأنه طائرٌ حرٌّ، محلقٌ فوق كل الأحداث، يراها من أعلى، فإذا هي أمامه واضحة، من بدايتها إلى نهايتها، يعرف منشأها ومآلها، فيحكم على كل حدث وعلى كل شيء حكما سديدا، مستوعبا، فهذا العقل العميق هو الذي يصلح للقيادة، وهو الذي يعرف كيف يفكّر، وهو الذي ينشأ على يده البحث العلمي المنهجي، وهو الذي ينتج الاكتشافات والاختراعات، وهو الذي يعرف الناسُ منه الحكمة، وهو الذي يصنع العمران، وربما وظف صاحب العقل العميق مهاراته وعلومه في الانحراف بالعمران إلى العدوان والاستعمار والقتل والتخريب. * العقل الثالث: عقل مستنير: يعرف الأحداث والأشخاص، ويرصد كل ذلك، ويلم بمجريات الحياة كالعقل الأول، ثم يغوص إلى أعماقها، ويرى ما وراءها كالعقل الثاني، ثم يربط كل ذلك بالله، فإذا به عقل أنارت أمامه الكائنات والحادثات والوقائع، وزادته ربطا بالمولى سبحانه، وهو عقل يتأمل، ويحلل، ويفكّر، فيرى الله تعالى في كل شيء، فإذا كل واقعة، وكل شخص، وكل حدث، وكل أمر، وكل قضية، تسمو به وترتقي، فتذكّره بالله، وهو يغوص في أحداث الحياة، فلا يكون حظه فقط أن يصل إلى الأعماق، بل هو يصطاد اللؤلؤ، ويلتقط جواهر المعرفة، ويخرج من كل حدث بزيادة في إيمانه، وارتقاء في سعة معرفته بربه، وهو يرى الحكمة الإلهية في كل واقعة، وتبصر عينه مشاهد الجلال والصنع الإلهي في كل حدث. «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ»، فتعالوا لنرى مسلك أصحاب تلك العقول في التفكير: أولا: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ»، فذكرُ الله تعالى حاضرٌ على ألسنتهم وفي وجدانهم، في كل وقت، وعلى كل حال، وجلال الربوبية حيٌّ نابضٌ حاضرٌ في أفئدتهم، يتداعى سريعا إلى أذهانهم كلما أرادت الفكر، فلا ينشغلون بأحداث الحياة، وزحامها، وتدافع البشر فيها، رغم معرفتهم بكل ذلك، بل تنصرف عقولهم إلى ما وراء ذلك من الحِكَمِ والدوافع، فينطلق العقل حرا من الأثقال والأغلال، مصحوبا بأنوار ذكر الله تعالى، يستنير بها، وينطلق العقل ليفكر، فكانت النتيجة: (وَيَتَفَكَّرُونَ) وهو المبدأ الثاني بعد الذكر، فأمعنت عقولهم في البحث العلمي التجريبي، المتعلق بعلوم الأرض والفضاء، وأمعنوا النظر والتأمل والتدبر والبحث والتفتيش في شئون السموات والأرض، فارتبط كل ذلك عندهم بالمولى سبحانه، ورأوا فيه مشهد الجلال الرباني، وشهدوا فيه الحكمة والتدبير والتقدير: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، ويوم أن تعود مؤسساتنا التعليمية لصناعة العقول، وتسخير كل مدخلات حركة التعليم فيها لصناعة هذا المنتج المعرفي، نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح لبناء وطن وصناعة حضارة. لمزيد من مقالات د.أسامة السيد الأزهرى;