يبدو أن أصحاب العقول المنيرة والمستنيرة يتخاطرون عن بُعد في منظورهم للحياة بعذاباتها وأشواقها، وبالتحديد في التحديق إزاء اللحظة الفائقة الحساسية التي تتوّهنا، أو نتعمد التوهان فيها، مستعذبين أوجاعها، راكدين في أوضاعها، وإن كنا لا نعدم الأمل في صيحة وعي هنا، أو نوبة عقلانية هناك، أو صرخة فكر في آبار الصمت المتواطيء. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يحمل عددنا الماضي صرخة لا تزال حية وموجعة ونابضة من الفيلسوف الراحل الدكتور زكي نجيب محمود تتجلي في نظرته إلي أحوال العقل العربي الذي لا يزال غائبا وأننا منذ خمسة قرون ونحن نعيش في ثقافة الخرافة! هذه الصرخة التي أطلقها زكي نجيب محمود في رائعته الفكرية »المعقول واللامعقول« مع أن صاحبها رحل عن حياتنا، والصرخة لا تصدر إلا عن حي - كما فسرها الزميل محمد شعير - إلا أنها تشي بأن فكر صاحبها لا يزال مدويا، فكم حذر، وكم بشّر، وكم أنذر بمجتمع جديد أو الكارثة - كان ذلك قبل حوالي العشرين عاما!. أقول لم يكن من قبيل المصادفة أن ننشر استعادة صرخة هذا المفكر العظيم لأنني وجدت أكثر من قراءة واعية للحظة الراهنة، لفتت نظري أكثر، واستنهضتني فكرا وهما وغما - أكثر مما نحن فيه من هموم وغيوم، إذ قرأت في دوامة كشفا للدكتورة »لميس جابر« وهي كاتبة لها وزنها الفكري ولها قراءتها الكاشفة، وأحدثها »يا طالع الشجرة.. طلّعت روحنا. وطالع الشجرة بإضافة »ياء النداء« مسرحية لتوفيق الحكيم كتبها في بداية الستينيات الماضية حين طغت موجة »اللامعقول« في الفن والفكر، مستلهما رؤيته من المقطوعة الفولكلورية المصرية »يا طالع الشجرة، هات لي معاك بقرة، تحلب وتسقيني بالمعلقة الصيني« والذي استفز د.لميس جابر في أطروحتها العميقة والبسيطة، بجريدة الفجر - الخميس 4/10/2012، أنها نظرت حولها - بلا تحديق مجهد - فرأت أننا نعيش زمنا آخر من اللامعقول، أحداثه تتابع فوق رؤوسنا، واستقطرت بسخرية ودهشة عدة مظاهر سياسية ودينية واجتماعية، فردية وجماعية، من قبيل الحل العبقري الديني للأزمة السورية بأن يتزوج المصريون من السوريات! والزواج في بلدنا من فتيات في سن التاسعة، ومفارقات اللجنة التأسيسية للدستور الذي لم يخلق مثله في البلاد، والافراج المتوالي عن أقطاب الجماعات الارهابية، وقد تصدروا المشهد السياسي، والقتلة الذين تحولوا - بقدرة قادر - الي أبطال وزعماء وشيوخ، وتخدير سيناء بالمخدرات، وتخضيرها بزراعة البانجو الأخضر، وسب وقذف المبدعين والمبدعات بأبشع الألفاظ وأقبحها بلا حياء أو خجل، وغير ذلك من الأشياء اللامعقولة. وإذ أتلفت ذات اليمين وذات الشمال، فأجد نفس العيون التي في طرفها التقاط »اللامعقول« كأن يكتب الزميل »محمد الباز« في »الفجر« عن الجهود المروعة التي تبذلها جمهورية قطر العظمي لتركيع مصرا!! تصوروا »مصر تركع لقطر« أيوجد لا معقول ألعن من هذا؟! وقس علي ذلك ما لا يربك عدوا ولا يسر حبيبا! إذن هو »اللامعقول«.. وهو الاتجاه المضاد »المعقول« ولهذه النظرة أصداؤها عند آبائنا الأقدمين حيث لالنظرة العقلية تختلط بكثير جدا من عناصر اللا عقل، بمعني - أنهم كلما صادفتهم مشكلة جماعية التمسوا لحلها طريقة المنطق العقلي في الوصول الي النتائج، وكادت النزعة اللاعقلية عندهم أن تقتصر علي الحياة الخاصة للأفراد، فلقد كانت لهم في طرائق العيش الاجتماعي »حكمة« والحكمة إنما هي نظرة عقلية مكثفة، ومازلنا إلي يومنا هذا نرتد الي حكمتهم هذه، كما يؤكد د. زكي نجيب محمود. إلا أنه لم يجد في جانب اللامعقول من السابقين قنطرة تصلح لعبور اللاحقين إذا أرادوا وصل الطريق. ولعل ما دفع د. لميس جابر وغيرها من الكتاب والمفكرين الحقيقيين، الذين يتصدرون المشهد الراهن يعتمدون في تنظيراتهم علي الحدس الخاص، من قبيل: أعتقد أن.. وأري أن.. وفي اعتقادي.. ويخيّل إليّ.. و.. و.. إلي آخر هذه التنظيرات ذات الشطحات الداخلية التي تسم قراراتنا فتبتعد التصديقات عن التصورات، ومن هنا تتجلي المصائب التي نعاني منها، حيث تغيب النظرة العقلية والتفكير العقلي الذي يحلل ويختبر ويحقق، ليرفض أو يستبقي، فأصحاب اللامعقول تختلف صنوفهم.. وهم الآن كثر علي الساحة، ومن وراء ستائرها أيضا لهم الحق أن يقولوا انهم رأوا كذا وكذا، مما لا نستطيع نحن رؤيته لكن الذي لا حق لهم فيه هو أن يدعوا لرؤيتهم يقين الصدق!. لأنهم هم أنفسهم في لحظة أخري قد يرون النقيض، وبالتالي لابد من أداة العقل ومنطقه، وهؤلاء يعيشون يقظة الحالمين الذين لا ينجزون شيئا إلا لأنفسهم لا يمدوننا بخبرة تفيد وغير مؤهلين للدخول في دنيا العمل . إن مشكلة معظم المنظرين الآن - سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا- أنهم »هواة« بل »حواة« نفتقد فيهم الرؤية والمنهج والبينة، وهم يمثلون أهل الثقة لا أهل العلم والخبرة، ولذلك يمثلون مصادر الاستبداد السياسي والديني والمعرفي والأخلاقي طبقا للظواهر الثلاث التي أصلها التنزيل الحكيم: »الفرعونية، والهامانية، والقارونية« فالعلم عندنا مبني علي الثقة وليس علي البينات، لذلك يبدو كل شيء عندنا مبهما وموهما، بل صار الإبهام والإيهام منظومة متكاملة تلقي بظلالها علينا وحجبت عنا حتي الضوء في اخر النفق، إن كان ثمة ضوء. لن ينتشل المجتمع، ويضبط إيقاعه إلا أصحاب الفكر المنهجي وأصحاب الثقافة الشاملة، لا هؤلاء النخب..هذا مستحيل، فلا شيء ضيعنا ويواصل عملية التضييع والتغييب إلا ما يسمي - وهما - بالنخبة والنخب!. النخبة.. خرافة أيضا، مثل كثير من الخرافات التي تحيطنا من كل جانب، فتعمي الأبصار والبصائر! وتتفشي »ثقافة اللامعقول« بجانبها السلبي، وتستشري »ثقافة الخرافة« وويل إذا غاب العقل والتفكير العقلي، وويل لمن يتركون الأمور لحواسهم وغرائزهم، والغريزة ليست معصومة من الخطأ والخطايا!. وإن من أوضح مظاهر اللامعقول في حياتنا أن »متغيراتنا« أصبحت أكثر من »ثوابتنا« وحتي نقيم الميزان لابد أن تنحسر موجة الاعتماد فقط علي »الحدس« الذي صار لا يفترق عن »التخمين«! وفي صخب وضجيج ما نحن فيه، لا أحد يسمع أحدا في الزحام، ولا أحد يريد أن »يعقل« حصانه! وأصبحنا وأمسينا نري من يوهمون المجتمع والناس بأنهم ملهمون من السماء، حتي قتل النفس التي حرم الله صارت تتم »بالاستخارة« فكان قتل الرئيس محمد أنور السادات باستخارة الجماعة الإسلامية حين ادعي القاتل »خالد الاسلامبولي« أن السماء ألهمته أن يقتل السادات، عبر حلمه في المنام، وصدقت جماعته ظنه ويقينه، فارتكبوا الجريمة، وهي نفس السماء أيضا التي ألهمتهم وأخبرتهم أنهم أخطأوا في حق السادات وأنهم لابد أن يندموا علي فعلتهم التي فعلوا.. هكذا بكل بساطة وسذاجة غيبية!. إن هؤلاء وأمثالهم يحدثوننا أنهم يتلقون الوحي من السماء بممارسة الفعل والقول، حتي بدوا وكأنهم لا ينطقون عن الهوي! بل منهم من يعلن بجلاء - أن الرئيس د.محمد مرسي مثل نبي الله يوسف! وأنه يوحي إليه! ولا يدركون أنهم يسيئون اليه من حيث لا يعلمون أو يعلمون!. الخطورة التي أحذر منها.. أن صناع القرار الآن - وهم كثر - يعتمدون علي الحدس والحس والباطن والماوراء.. ويتشبهون بقصة »العبد الصالح« في سورة الكهف، فيخلطون بين العدل الالهي والعدل الانساني، ولا يريدون أن يتعمقوا في الدلالة التي تفيض بها القصة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. نريد الاعتماد علي »البينات« و»الوقائع« و»الحقائق« و»البراهين« و»الأرقام« و»الاحصائيات«.. لا نريد القرار السياسي علي طريقة »حدثني قلبي عن ربي«. لا نريد الفعل الاجتماعي علي طريقة »اطبق جفنيك وانظر، ماذا تري، فإن قلت لا أري حينئذ شيئا، فهو خطأ منك، بل، تبصر، ولكن ظلام الوجود - لفرط قربه من بصيرتك - لا تجده، فإن أحببت أن تجده وتبصر يداك - مع انك مطبق جفنيك - فتنّقص من وجودك شيئا، أو أبعد من وجودك شيئا، وطرق تنقيصه والابعاد منه قليلا، المجاهدة، ويعني المجاهدة بذل الجهد في دفع الأغيار، أو قتل الأغيار: الوجود، النفس، الشيطان« (فوائح الجمال وفواتح الجلال، نجم الدين البكري). لا نريد العلم علي طريقة مثلث الغزالي »بطد زهح واح« و»بدوح«. لا نريد الاقتصاد علي طريقة »اذا شاهدت مطرا ينزل فاعلم أنه مطر ينزل من محاجر الرحمة لاحياء أراضي القلوب الميتة« ولا علي طريقة »حقيقة الفقير أن يكون مغتبطا بفقره، خائفا أن يُسلب الفقر«. وأود لو أسير وفي يدي مكبر صوت لأُسمع أصحاب اللامعقول هذه الصيحة الذكية النجيبة »تفتح الطبيعة كتابها لكل ذي عينين فيقرأ قوانينها في ظواهرها ثم يتعامل معها علي أساس تلك القوانين، وعندئذ يركب هواءها ويغوص في مائها ويستنبت أرضها ويستخرج خبيئها أشكالا وأولاناا، علي أن يتم له ذلك كله في إطار قوانينها، علي غرار ما يتحدث إنسان إلي إنسان بلغته ليتفاهما، وذلك هو سبيل العقل لكن سبيل العقل إنما هو سبيل الأقوياء الصابرين علي إمعان النظر في ظواهر الطبيعة لمعرفة طرائقها في السير والفعل والتفاعل، أما إذا أقعد العجز نفرا عن متابعة العقل في سبيله، ثم ظلوا علي رغبتهم في استخدام الطبيعة لأغراضهم، فماذا يبقي أمامهم سوي أن يلتمسوا لأنفسهم طريقا مختصرا إلي الغاية المنشودة؟ هل يريدون للمريض أن يشفي من علته؟ إذن فلماذا يبحثون ويفحصون ويصدعون رؤوسسهم بالبحث والفحص عن أصل العلة من جراثيم وغير جراثيم؟ إن فلانا الفلاني قد كرمه الله بأن جعل فيه السر المكنون، ويستطيع أن يكتب لك أحرفا هو عليم بقدراتها، فإذا هي الوسيلة العاجلة إلي شفاء سريع، أم هل يريدون طعاما من جوع وليس في الدار ما يتبلغ به الجائعون؟ إذن فلا عليهم من ارتياد الأسواق واجتلاب الأرزاق من مصادرها، فها هو فلان الفلاني علي صلة بالسماء تمكنه من لمسة بأصابعه أو تمتمة من شفتيه فإذا قدور الدار ملأي باللحم والمرق والأرز وما شاؤوا من ألوان الطعام، وتلك »كرامات« يهبها الله لمن شاء من عباده المقربين، كأنما الله سبحانه وتعالي يرضيه أن تسري الفوضي في مخلوقاته بدل أن تنتظمها قوانينه!. نعم..إن طريق العقل واحد، وأما اللاعقل فله ألف ألف طريق. ويا طالع الشجرة.. ابق مكانك، ولا تنزل، فما نحن بحاجة الي شجرتك ولا بقرتك ولا ملعقتك الصينية!. ولا عزاء للعقل ما دام اللامعقول هو السائد والمألوف!.