حين كتبت عن عسكرة الاستشراق فى هذه المساحة من الأهرام العزيزة، انتهيت الى ان من تولى هذه المهمة فى القرن الحادى والعشرين هم جنرالات وطيارو حلف الناتو، وليس المستشرقون من طراز نيبور الذى افزع اهل الاسكندرية باسطرلاب بدت فيه الاشياء كلها مقلوبة بدءا من المنارة والعمارات والاشجار حتى البشر الذين وقفوا على رءوسهم فعَلَت عيونهم على الحواجب، او من طراز د . فان دايك وطوسون وآخرين ممن اجروا جراحات سياسية لتضاريس بلاد الشام . وكان لا بد لاستكمال مفهوم العسكرة تبعا لاستعمار ما بعد الحداثة بعسكرة الدبلوماسية والانوثة معا، لكى تكتمل ملامح اسبارطة الجديدة كما تجسدها الولاياتالمتحدة، لتحقيق ما سماه الراحل عبد الوهاب المسيرى الفردوس الارضي، وهو حلم مشترك بين الولاياتالمتحدة واسرائيل، ما دام الطرفان قد تأسسا على فلسفة الاستيطان ومحو السكان الأصليين وترجمة الجغرافيا من لغة قديمة الى لغة جديدة، كما حدث فى استخدام امريكا لاساطير الهنود الحمر على نحو معكوس، يفرغها من شحنتها التاريخية، ويحولها الى اسماء تطلق على سيارات ومنجزات تكنولوجية من طراز اسطورة طائر الرعد وهو ما تكرر فى عَبْرَنة اسرائيل للجغرافيا الفلسطينية واطلاق اسماء جديدة على شوارع ومعالم واطلال . وقد بدأت عسكرة الدبلوماسية فى امريكا فى حرب الخليج الثانية حين تولى رئاسة الدبلوماسية الجنرال كولن باول، والذى عهد اليه بتلفيق ذرائع الحرب على العراق حين اعلن عن وجود اسلحة دمار شامل فى بغداد، وقدم فى مؤتمر صحفى العديد من الصور والمشاهد الملفقة لاثبات ذلك، لكن التتويج الرمزى لعسكرة الدبلوماسية كان فى صورة اخذت لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس فى مطار بغداد، حين هبطت عليه لأول مرة، فقد التقطت خوذة احد الجنود الامريكيين ووضعتها على رأسها واوحت لمن يشاهدها ان الامر لا يتخطى دعابة فولكلورية. وحين تتم عسكرة الدبلوماسية فإن دلالة ذلك هى حذف اية امكانية للحوار الذى يعترف بالطرف الاخر، بحيث يتحول الديالوج الى مونولوج ولا يسمع القوى المشحون باوهام امبراطورية غير صدى صوته، ومن مظاهر عسكرة الدبلوماسية ما مارسه بعض السفراء الامريكيين فى عواصم عربية كالقاهرة وطرابلس وبغداد من ادوار تتجاوز حدود الدبلوماسية التقليدية، فتدخلوا فى شئون تلك العواصم والتقوا أطرافا سياسية كما لو ان السفير هو المندوب السامى الجديد فى استعمار ما بعد الحداثة وثقافة الحروب الاستباقية التى يطلق عليها فى معاجم الميتاستراتيجية، حروب الشرعية المستدركة اى البحث عن مبررات الحرب بعد ان تضع اوزارها ! وإذا صحّ التصنيف الكلاسيكى للدبلوماسيات بحيث تكون ناعمة او خشنة او رشيقة او وقائية فإن ما اضيف فى هذه الايام هو العسكرة حتى لو كانت القبعات الانيقة لا الخوذ هى التى تغطى الرءوس فى هذه الحفلة التنكرية، ويبدو ان لدى الكولونيالية بمختلف مراحلها موروث لم ينه التاريخ صلاحيته تماما، لأن الولاياتالمتحدة التى رفعت عشية الحرب العالمية الثانية شعار تصفية الاستعمار والتبشير بما بعده حاولت ان تكون الوريث الانجلوساكسونى للامبراطورية التى غابت عنها الشمس واوشك فيها القمر ايضا على الافول. وما تبدل هو الاقنعة والاساليب وعلى سبيل المثال اخترعت الولاياتالمتحدة مصطلحات من طراز الشريك والحليف والصديق من اجل تضليل التابع وايهامه بالنديّة، وبالتأكيد هناك من صدقوا ، خصوصا ان تقاليد البروتوكول تتيح لأية دويلة فى العالم الثالث ان تطلق على وزير خارجيتها النظير لوزير خارجية امريكا . وعسكرة الدبلوماسية بدأت منذ زمن طويل لكن على استحياء لأن وزارات الخارجية فى الغرب ورثت عما كان يسمى وزارة المستعمرات الكثير من تقاليدها وأساليبها وأدواتها وخرائطها. ولعل ما قام به بريمر فى العراق وهو يرتدى زيا مدنيا وبلا القاب عسكرية بدءا من تفكيك الجيش ومؤسسات الدولة فى فترة قياسية هو احد الامثلة المعاصرة فى هذا السياق، لهذا كان مجرد ايقاع اسم بريمر يستدعى الى الذاكرة العربية اللورد كرومر وما فعله بمصر والسودان . بالطبع سنجد من يقولون ما اشبه الليلة بالبارحة ، لأن مراوغة الثعالب واحدة رغم الاختلاف فى الاداء . اما عسكرة الانوثة فقد جاءت مُتزامنة الى حدّ ما مع عسكرة الدبلوماسية حيث لم يعد هناك مجال لاستخدام القوة الناعمة، ليس بالمعنى الشائع الذى تتداوله الميديا الان بل بالمعنى الذى اراده صاحب المصطلح وهو جوزيف ناى . عسكرة الانوثة لم تخيّب فقط تنبؤات الشاعر اراغون الذى قال فى اربعينيات القرن الماضى ان المرأة هى مستقبل الرجل، كما خيّبت ما تنبأ به فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية النظام العالمى الجديد، حين قال ان التاريخ اصبح قابلا للتأنيث، والانوثة بهذا المعنى هى المرادف للتعايش السلمى والاشفاق والرعاية، ذلك لأن الطبيعة أنثى مقابل ذكورة التاريخ الذى تولى فيه الرجل الحكم والاحتكار ستة الاف عام ! ان وجود اكثر من ثلاث وزيرات حرب فى اوروبا له دلالة امازونية لكن على نحو يليق بعصرنا، وان كان التاريخ قد شهد حكم ملكات خصوصا فى مصر القديمة فإن ما حدث فى عصرنا هو شيء مغاير، حيث اطلقت صفات من طراز المرأة الحديدية على نساء مثل تاتشر بما يوحى بانقلاب انثوى . وما اعنيه بعسكرة الانوثة يتجاوز الدلالات الحرفية لهذه العبارة لأنه يتخطى التجنيد والمناصب الكبرى فى الجيوش الى المفاهيم الحضارية والثقافية، وهنا ينبغى التذكير بأن الغرب ليس متجانسا فى عسكرة الانوثة، فأهم واقوى دولة فيه وهى الولاياتالمتحدة لم يكن من بين رؤسائها الاربعة والاربعين امرأة وكذلك منصب الامين العام للامم المتحدة، رغم ان هناك دول اسيوية شغلت فيها نساء منصب رئاسة الجمهورية وهى دول تصنف فى خانة العالم الثالث الأقل ادعاء بتحرير المرأة ومساواتها بالرجل . ان عسكرة الانوثة تبعا للمعيار المفاهيمى لا الميدانى هى تعبير عن فائض العنف فى مجتمعات لم تتردد فى احياء مفهوم المرتزقة فى جيوشها كما هو الحال فى بلاك ووتر وشقيقاتها. ومن يزعمون فى اطروحاتهم المتأنقة والمعدة للتصدير انهم رعاة الثالوث المضطهد وهم المرأة والطفل والفقير يمارسون عكس ذلك ميدانيا، انهم امتداد اسبارطى مضاد لاثينا الفلاسفة وقنوات الرى والحلم بالجمهورية الفاضلة . لمزيد من مقالات خيرى منصور