من الاهتمامات الأساسية للحركات الفكرية والبحثية التي تجمَع وتدعَى باسم ما بعد الاستعمار(أي: الدراسات التي ترصد التغيرات والمؤثرات والتأثيرات الاجتماعية والثقافية بمختلف مناحيها في البلاد التي تحررت مؤخرًا من الاستعمار خاصة في العقود الثلاثة في الأربعينات والخمسينات والستينات، والتي لم تزل ممتدة ومؤثرة إلى اليوم) الاهتمام بوصف وتحليل ونقد الاختلاف ذي الأصل الثقافي في المفاهيم والنظريات، مثل مفهوم حقوق الإنسان الذي قد يختلف من ثقافة لأخرى، ومفهوم العدالة أو الحقيقة أو المعرفة أو الإنسان.. إلخ. أو-باختصار- السعي إلى إثبات الاختلاف بدلاً من إثبات التخلف، فالقبائل الإفريقية مثلاً لديها مفهومها عن الحقيقة، وللمسلمين مفهوم عن الحق، وللعرب مفهومهم عن العلاقة بين الجنسين، وإثبات أن اختلاف هذه المفاهيم عن ثقافة المركز الغربي ليست من قبيل تخلف تلك الشعوب غير الغربية، بل هو نتيجة اختلاف ثقافي طبيعي وكائن لدى ثقافات جرى في الماضي تهميشها لصالح الاستعمار. وهذه الدراسات لا تهدف فقط إلى الكشف (الأكاديمي العلمي) عن هذه الاختلافات، باعتبارها اختلافات، وبالتالي إعادة طرح مفهومي التقدم والتخلف للنقاش، بل هي كذلك اتجاهات أيديولوجية تهدف في الوقت نفسه إلى قطع الطريق على استعمار جديد، أو –على الأقل- على الغطاء الفلسفي له. وتتساوق هذه النزعة مع الاتجاه إلى نزع المركز الغربي Decentralization، في عصر ما بعد الحداثة، وأغلب اتجاهات ما بعد الحداثة بالتالي التي تسعى إلى كشف زيف النسق الفكري كنسق، ونقض مركزية المراكز المفهومية كاستراتيجية أساسية، أو ما تترجمه الدكتورة يمنى الخولي الأستاذة بجامعة القاهرة ب"نقض مركزية المركز"، كما تتساوق مع الفلسفة النسوية التي تنظر إلى منتج المرأة الثقافي باعتباره ذا خصوصية مختلفة عن ثقافة الرجل التي همشتْ ثقافة المرأة لصالح مكاسب اجتماعية. وقد التقت هذه النزعة إيجابيًا مع نزعات يسارية وقومية وإسلامية في العالم العربي، أو مزيج بينها مثل اليسار الإسلامي الذي بلوره حسن حنفي، تحاول أن تجد لذاتها سندًا ودعمًا فلسفيًا في مواجهة رأس المال والاستعمار الجديد والاستبداد المحلي والخصم السياسي العلماني التغريبي التقليدي. وقد تضافرت كل هذه الاتجاهات إذًا: ما بعد الاستعمارية وما بعد الحداثة والنسوية وبعض الاتجاهات القومية واليسارية والإسلامية في العالم الثالث، ومنه العالم العربي، لتشكل اتجاهًا أيديولوجيًا يواجه الاستعمار الجديد أو الممكن عن طريق سحب البساط من أسفل أقدام فلاسفته الجدد القائلين بصدام الحضارات وحتميته، ونهاية التاريخ في شكل الليبرالية الغربية، والاتجاهات السياسية اليمينية المتطرفة، وخاصة التي دعمت الولاياتالمتحدة في حربها على أفغانستان والعراق، والتي تدعم إسرائيل كوجود سياسي. انتشر هذا الاتجاه، اتجاه استكشاف الخصوصية الثقافية وتأثيرها على المفاهيم الفلسفية، انتشار النار في الهشيم باعتباره أيديولوجيا ضد الاستعمار، وأصبح طرحه على موائد البحث والمؤتمرات الأكاديمية والمنشورات العلمية من قبيل الموضة أحيانًا، دون تساؤل عن تأثيره المعاكس، أو أعراضه الأيديولوجية والفلسفية الجانبية. بل قد صار من ينقده يواجه أحيانًا هو نفسه الهجوم بصفته يقف ضد حقوق الإنسان، والعدالة العالمية، السياسية والاقتصادية، والحرية، والتعددية، والديمقراطية، والعلم الدقيق، الذي يجب ألا يغفل الفروق والأصول الثقافية للاختلافات المفهومية والنظرية. والحقيقة ربما هي أن هذه الدراسات نفسها قدمت إلى الاستعمار الجديد في العالم العربي خدمات لا تقدر بثمن بدون مقابل تقريبًا؛ إذ إن الكشف عن (الخصوصية الثقافية) العربية أو الإسلامية قدمَ غطاءً فكريًا وإعلاميًا وأكاديميًا للحركات الإسلامية بالذات التي تمتد لأعمق مما تمتد الحركات العلمانية في المجتمع العربي. صحيح أن الحركات العلمانية استفادت أيضًا-على تنوع اتجاهاتها-من هذه الاستراتيجية الفلسفية، إلا أن انقسامها، وسطحيتها النسبية من جهة الانتشار المجتمعي، وضعف تمويلها، أسباب رئيسية أعاقتها عن تحقيق استفادة مماثلة للتي حققتها الحركات الإسلامية. فصار الإسلاميون يجدون من يفني عمره من الغرب والعرب لإثبات خصوصية المفاهيم، كحقوق الإنسان مثلاً، ليتجنبوا بذلك خوض مواجهة قاصمة مع مفهوم حقوق الإنسان الطبيعية العالمية، وبالتالي استطاعت هذه الجماعات، كجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وفروعها بتركيا وغزة وتونس خاصة، بلورة أيديولوجيا أقوى وأكثر صلابة وصلادة في مواجهة العلمانيين، تقوم على مفهوم (الهويةالثقافية). ورغم أن الحركات الإسلامية ترفع شعارات محاربة الكفر والضلال والإباحية، وكراهية الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وربما الغرب كله، والعالم كله في قول آخر، فإنها لم ترفع شعارات الديمقراطية والحرية والتعددية وحقوق الإنسان والمساواة وحقوق المرأة ومواجهة الاستعمار، رغم أن رفع الشعارات لا يكلف شيئًا، وهي بذلك استفادت من دراسات ما بعد الاستعمار عمومًا بشكل (دفاعي)، بحيث تعفيها هذه الاستفادة بالذات من رد الهجوم العلماني، المحلي والغربي، عليها باعتبارها لا تستهدف تحقيق هذه الشعارات الأخيرة. وبالتالي استفاد الاستعمار الجديد من هذه الحركات السياسية التي تتغلغل في المجتمع على بعد سحيق، ولا تؤمن بحرية سياسية، ولا ديمقراطية، ولا حقوق للإنسان، وتسعى لإقامة نظام شمولي بوجه من الأوجه، وتستمد من دراسات ما بعد الاستعمار نفسها صلبَ درعها في سبيل خدمة استعمار جديد، يجد سبيله إلى المنطقة العربية والإسلامية من باب الانقسام الطائفي، والحرب الأهلية، والاستبداد، الذي يؤدي عادة إلى الفساد، والعنف، والدولة الأمنية، وبالتالي التدخلِ الأجنبي، فالاستعمارِ في النهاية، أو مرة أخرى. وهكذا تحركت دراسات ما بعد الاستعمار من (ما بعد) إلى (إلى).