عقدت مؤسسة الفكر العربي بالقاهرة مؤتمرها السنوي يوم15 نوفمبر2008 وكان موضوعه هو ثقافة التنمية من أين تبدأ؟ وقد شاركت في المؤتمر ببحث قلت فيه جوابي عن هذا السؤال المهم هو ان ثقافة التنمية تبدأ من التعرف أولا علي السياق التاريخي الذي تجري في ظله عملية التنمية بأبعادها المختلفة من ناحية, وعلي نوعية المجتمع من ناحية اخري, وعلي هذا الاساس يمكن القول ان ثقافة التنمية التي تبلورت في المجتمع الصناعي في ضوء موجهات الحداثة الغربية, تختلف اختلافا جوهريا عن ثقافة التنمية التي تجري الآن في ظل ما بعد الحداثة التي تعبر عنها ظاهرة العولمة. ووفقا لهذا التمييز الضروري بين ثقافات متعددة للتنمية, يتعين علينا أولا ان نتحدث بإيجاز عن ثقافة التنمية في عصر الحداثة والقيم التي بنيت علي أساسها.
هناك اجماع بين المفكرين وعلماء التاريخ الاجتماعي علي أن مباديء الحداثة الغربية التي شيد علي اساسها المجتمع الصناعي ثلاثة, وهي الفردية والعقلانية والحرية. ولعل أهم هذه المباديء قاطبة هو الفردية, ومرد ذلك إلي ان وجود الفرد باعتباره كائنا متفردا له خصوصيته لم يتحقق إلا في إطار المجتمع الصناعي الذي قام علي انقاض المجتمع الزراعي التقليدي الاقطاعي. وهذا المجتمع لم يكن يضع اعتبارا للافراد من حيث هم, لانهم كانوا يذوبون في كيانات أوسع, قد تكون القبيلة أو الجماعة العرقية ابرز اشكالها, ولذلك يمكن القول إن البورجوازية الأوروبية وهي في سبيلها لتقويم مشروعها الاساسي, وهو تأسيس المجتمع الصناعي ارادت عامدة ان تستخلص الفرد من قبضة البني الشمولية في المجتمعات الزراعية التقليدية, لذلك كان شعار الرأسمالية المبكرة الشهير هو دعه يعمل دعه يمر. ومعني ذلك ان يترك للفرد حرية اختيار العمل الذي يتفق مع امكاناته وقدراته بدلا من ان يجبر إجبارا في المجتمع الزراعي والاقطاعي علي القيام بأعمال لم يخترها بارادته الحرة. اما الشق الثاني من الشعار دعه يمر فمعني ذلك ان الفرد الذي كان معتقلا في إطار حدود المجتمع الزراعي الاقطاعي القديم, والذي لم يكن يستطيع الانتقال من مكان إلي مكان آخر إلا بأمر السيد الاقطاعي, آن الأوان لكي يكتسب حرية التنقل كاملة بغير حدود ولاقيود.
ومن ناحية ثانية قامت الرأسمالية الأوروبية المبكرة علي إذكاء الحافز الفردي, وإطلاق عنان الافراد لكي يتنافسوا منافسة حرة في السوق, الذي هو الوحدة الاساسية التي قام علي اساسها المجتمع الصناعي, ومن ثم كان لابد من تحرير الفرد من كل القيود التي كانت تحد من حركته, واعطائه الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجعله مشاركا في عملية التنمية.
وبالرغم من ان هناك بونا شاسعا بين هذه المبادئ النظرية وبين ماحدث بالفعل من ممارسة, حيث أعلي من شأن طبقات المنظمين الاقتصاديين والرأسماليين علي حساب طبقة العمال, وأنكرت الحقوق السياسية لمختلف طوائف الشعب قرونا طويلة إلي ان استقرت, فانه يمكن القول إنه بالرغم من كل ذلك, فإن الفردية وما يتعلق بها من قيم كانت تمثل احد اركان ثقافة التنمية في المجتمع الصناعي.
اما المبدأ الثاني لثقافة التنمية في عصر الحداثة فهو العقلانية, والعقلانية لم تترسخ كقيمة من قيم ثقافة التنمية في المجتمع الصناعي إلا بعد ان قام المجتمع الأوروبي بثورة ثقافية, ثار فيها علي الكنيسة التي سيطرت بجمودها الفكري وتأويلاتها الدينية الجامدة واحكامها المتطرفة علي المجتمع, حيث استندت إلي النص الديني كأساس لإدارة شئون المجتمع في ظل مناخ سياسي واجتماعي ساده القمع.
وحين قام المجتمع الأوروبي بثورته الثقافية رفع شعارا أساسيا في ظل مبدأ العلمانية والذي يعني اساسا الفصل بين الدين والدولة, وهو ان العقل هو محك الحكم علي الاشياء. ومعني ذلك بمفهوم المخالفة ان العقل وليس النص الديني هو معيار الحكم علي السياسات المختلفة بما فيها سياسات التنمية ذاتها.
وقد ساعد المجتمع الصناعي علي النهوض بأحوال البشر اعتماده الاساسي علي العلم والتكنولوجيا, وذلك في ضوء فلسفة إنسانية جديدة وغير مسبوقة مبناها ان الانسان يستطيع السيطرة علي الطبيعة ويشكلها كما يشاء, وبالتالي فإن مصير الإنسان عكس ما تم في القرون السابقة فلن يترك في يد المصادفة أو تصاريف القدر. والمبدأ الثالث والأخير من مباديء الحداثة التي وجهت مشروع تنمية المجتمع الصناعي هو الحرية, لقد جعلت الحداثة من الارادة البشرية الحرة اساس بناء المجتمع الحديث والدولة الحداثية.
والمجتمع الحديث هو مجتمع الطبقات المفتوحة وليس مجتمع الطوائف المغلقة, وهو منبع المجتمع المدني الفعال النشيط الذي يمارس فيه الفرد حريته, بعيدا عن الخضوع للدولة. بعبارة أخري المجتمع الحديث هو مجتمع المواطنين لاتجمع الرعايا, والدولة الحداثية هي دولة الدستور لا دولة الاستبداد, ودولة حرية التفكير وحرية التغيير وحرية الاعتقاد, لا دولة اعتقال التفكير أو تحريم التعبير, أو اضطهاد من لايدينون بالعقيدة السائدة في المجتمع.
والخلاصة ان ثقافة التنمية في المجتمع الصناعي الذي شيد في ظل مشروع الحداثة الغربي, قامت علي اساس قيم ثلاث هي الفردية والعقلانية والحرية. وفي رأي عديد من المؤرخين ان هذه القيم بذاتها هي سر تقدم الحضارة الغربية وازدهار المجتمع الصناعي الغربي, والذي استطاع بفضل الثورة الصناعية ان يشبع الحاجات الاساسية لملايين البشر. غير ان التاريخ الاجتماعي الأوروبي يثبت بما لايدع مجالا للشك ان هناك فجوة كبيرة بين هذه القيم علي مستوي النظرية, وبينها علي صعيد التطبيق. وذلك لاننا نعرف جميعا انه في القرن العشرين ظهرت بالرغم من هذه القيم النبيلة المعلنة ايديولوجيات متطرفة اثرت علي ممارساتها كالنازية التي نشأت في المانيا والفاشية التي برزت في ايطاليا.
واذا رجعنا إلي سجلات التاريخ الأوروبي لعرفنا انه قامت في القرن العشرين ايضا حربان عالميتان مدمرتان الحرب العالمية الأولي1914 1919 والحرب العالمية الثانية1939 1945. واذا نظرنا إلي هذه الايديولوجيات المتطرفة من جانب إلي هاتين الحربين العالميتين من جانب آخر, لأدركنا ان قيم الحداثة الثلاث ضاعت في زحمة صراعات الدول وطموحات الزعماء, والنزعة الاستعمارية المدمرة التي ادت بالرغم من هذه القيم المعلنة إلي احتلال واستعمار عديد من الدول في العالم الثالث عموما, وفي العالم العربي خصوصا.
واذا أضفنا إلي النقد الخارجي لهذه القيم الثلاث النقد الداخلي الذي يوجه لكل قيمة منها لأدركنا انه بالرغم من الدور التاريخي الذي لعبته في إحداث التقدم الأوروبي إلا انه شابتها جوانب قصور متعددة, جعلت العالم العربي نفسه ينقلب عليها في أواخر القرن العشرين, تحت تأثير شعارات وقيم حركة ما بعد الحداثة.
وقد وجهت إلي قيمة الفردية انتقادات شتي علي اساس ان الاسراف في تطبيقها ادي إلي نشوء مجتمعات انسانية تسودها اتجاهات تحقيق المصلحة الفردية الخاصة علي حساب المصلحة الجماعية العامة, والشاهد علي ذلك ان الرأسمالية الأوروبية قامت علي اساس تحقيق فائض القيمة الذي استحوذ عليه الرأسماليون من خلال استغلال ملايين العمال, وساعدت الدولة الرأسمالية من خلال احتكار القوة السياسية علي تمييز الرأسماليين الذين عملوا لمصلحتهم الفردية الخاصة, وراكموا الثروات علي حساب ملايين البشر الذين لم يفدهم مبدأ الفردية في شيء, لانهم سحقوا في ممارسات السوق الرأسمالين. اما القيمة الثانية وهي العقلانية فقد وجهت لها انتقادات فلسفية شتي, اما أهم هذه الانتقادات فهو ان الاسراف في العقلانية تجاهل الأبعاد الروحية الكامنة في الطبيعة الانسانية من جانب, وأنها استخدمت لتبرير مشروعات مضادة للانسانية من جانب آخر.
والشاهد علي ذلك ان العقلانية كانت هي اساس سوء استخدام العلم والتكنولوجيا لأغراض الأمن القومي, من أول ابتكار الديناميت علي يد نوبل صاحب الجائزة الشهيرة إلي آخر اختراع القنبلة الذرية التي ألقيت بالفعل في اثناء الحرب العالمية الثانية علي هيروشيما ونجازاكي في اليابان. بل انه يمكن القول ان سباق التسلح الذي غرقت فيه الدول العظمي خصوصا الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدةالأمريكية في عصر الحرب الباردة, هو مسلك لا عقلاني من الدول التي رفعت شعار العقلانية كاساس لثقافة التنمية. وذلك لان الأموال الطائلة التي انفقت علي التسليح الذي لم يستخدم اطلاقا, كانت كفيلة بالقضاء علي ظاهرة الفقر في العالم.
واذا جئنا اخيرا إلي قيمة الحرية باعتبارها من بين قيم ثقافة التنمية الاساسية في المجتمع الصناعي لادركنا من واقع التاريخ الأوروبي انها مسخت وشوهت في التطبيق سواء داخل المجتمعات الأوروبية ذاتها التي سادتها نظم شمولية وسلطوية سحقت حريات الافراد سحقا, أو في مجتمعات العالم الثالث التي تم استعمارها أو احتلالها حيث اعدمت تماما الحريات السياسية والاقتصادية والثقافية لمواطني هذه الدول.
ويكفي في هذا المجال الاشارة إلي ان فرنسا صاحبة شعارات الحرية الإخاء والمساواة, استعمرت الجزائر لمدة مائة وثمانين عاما وطبقت سياسة ثقافية مبناها إلغاء اللغة العربية, وإحلال اللغة الفرنسية مكانها, باعتبار الجزائر جزءا من المتروبول الفرنسي. وكان طبيعيا بعد أن وجهت هذه الانتقادات العنيفة لثقافة التنمية الرأسمالية في المجتمع الصناعي ان تظهر حركة ما بعد الحداثة التي عبرت عنها ظاهرة العولمة لكي تنقض هذه القيم, وتبشر بقيم جديدة. جريدة الاهرام المصرية- 20/11/2008