الحداثة تقوم علي عدة أسس، أولها احترام الفردية، بمعني اعطاء الفرد باعتباره كيانا مستقلا حقوقه السياسية في ظل نظام ديمقراطي يؤمن بالتعددية السياسية والحزبية، وحقوقه الاقتصادية التي تتمثل في حقه في التنقل والعمل بغير اجبار، وحقوقه الاجتماعية والثقافية، والتي تتمثل في الخدمات التي توفرها الدولة للمواطنين. والأساس الثاني من أسس الحداثة هو العقلانية. أما الأساس الثالث فهو الاعتماد علي العلم والتكنولوجيا لاشباع الحاجات المادية لملايين السكان. هذا هو التعريف الذي يقدمه المفكر والباحث »السيد يسين« في كتابه »آفاق المعرفة في عصر العولمة« للحداثة. فالحداثة من وجهة نظره مشروع حضاري متكامل متعدد الأبعاد، ويقوم علي ثلاثة مفاهيم رئيسية هي: العقلانية والفردية والحرية. وهنا يتفق »السيد يسين« مع ما ذهب إليه الدكتور »محمد الشيخ« في كتابه »رهانات الحداثة« الصادر عام 7002 في بيروت، من أن العقلانية هي العمود الأساسي للحداثة، ولعل الشعار الشهير »العقل هو محك الحكم علي الأشياء«. يوضح أبعاد الثورة الثقافية التي قام بها المفكرون الأوروبيون في مواجهة تجميد المجتمعات لفترة طويلة من الزمن. أما الحديث عن »الفردية«، فقد ظهر بعد ان كان الفرد محروما في المجتمعات الاقطاعية من كيان مستقر، بل كان مجرد ذرة من الذرات التي يهيمن عليها النظام الاقطاعي والعبيد الذين يعملون في الأرض بلا حقوق سياسية واقتصادية. ولمزيد من الايضاح.. فإن استخلاص الفرد من البنية الشمولية الاقطاعية واعطاءه الاحساس بذاتيته وحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان من بين العمليات الأساسية التي بلورتها الرأسمالية الأوروبية في بداية نشأتها. ويبقي أهم مبدأ من مباديء الحداثة علي الاطلاق، وهو »الحرية«، ذلك أن الفرد الذي يستخدم العقل ويشعر بذاتيته ويعرف حقوقه.. لابد له من فضاء واسع من الحرية الفكرية لكي يمارس التفكير العقلاني، ومن الحرية السياسية لكي يقوم بدوره كمواطن مسئول.
أي مشروع نهضوي عربي جديد لابد أن يقيم دعائم الفكر العلمي ويجابه ظواهر التفكير الخرافي من ناحية، وأن يرسخ قواعد الممارسة الديمقراطية علي حساب أساليب الحكم الشمولية والسلطوية العربية. ويري السيد يسين أن رفض الحداثة الغربية الذي بدأ منذ عصر النهضة العربية الأولي.. سرعان ما تجدد، لدي أنصار التيار الديني، بعد سقوط الخلافة الإسلامية في أواخر العشرينيات عقب انهيار الامبراطورية العثمانية المتداعية. ومنذ هذا التاريخ.. وجهود أنصار الإسلام السياسي لا تنقطع في سبيل استعادة الخلافة، والتي هي بالنسبة لهم الفردوس المفقود. ولذلك لم يكن غريبا هجوم هذا التيار علي الحضارة الغربية ورفضهم القاطع لها، باعتبار انها هي التي حطمت الخلافة الإسلامية، وقد يكون مقبولا هجوم الإسلاميين علي القوي الاستعمارية الغربية، غير أنه من غير المقبول في الواقع النظر إلي الثقافة الغربية وكأنها كتلة واحدة صماء لا تمايز فيها ولا تنوع. ومرة أخري يطالبنا مؤلف كتاب »آفاق المعرفة« بالامتناع عن »التعميم الجارف« علي الثقافة الغربية، وادعاء انها بطبيعتها مضادة للقيم الإنسانية الرفيعة ،التي تتعلق بالحرية، والعدل والمساواة، كما أنها ليست معادية أيضا للإسلام وللمجتمعات الإسلامية. .. وبالإضافة إلي التيارات العنصرية الجديدة نشأت في الغرب، فإن هناك في الثقافة الغربية تيارات تقدمية تؤمن بحق العالم الثالث في أن ينعم بمسار التنمية علي المستوي العالمي، وتؤيد حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة، ولا ننسي، في هذا المقام، المظاهرات المليونية التي خرجت في العديد من عواصم العالم الغربي للاحتجاج علي الغزو العسكري الأمريكي للعراق. ويري السيد يسين ان ادعاء الإسلاميين المتشددين ان الخراب لم يلحق بالدول العربية والإسلامية إلا بسبب تبني مباديء الحداثة الغربية ومن بينها تطبيق القوانين الوضعية ووقف تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.. ليس له أساس وفي تقديره ان الرفض الإسلامي للحداثة الغربية والذي يتخذ في بعض الأحيان شكل الرفض المطلق يمثل مخاطر ثقافية علي المجتمع العربي لا حدود لها، ذلك لأن هذا الرفض يعني في الواقع رفضا لمجموعة من القيم المتماسكة التي قامت علي أساسها الحداثة.. وأدت في الممارسة إلي تقدم المجتمعات الغربية. ويحذر مفكرنا من الخلط بين مفهومي الحداثة والتحديث فالتحديث يعني تطوير مجتمع ما كالمجتمع الزراعي لكي يتحول إلي مجتمع صناعي. وقد تمت عملية التحديث في العالم العربي بطريقة عشوائية تفتقر إلي شمول النظرة لعملية التنمية المستدامة، والدليل علي ذلك هو اتساع دائرة الفقر في العقود الأخيرة، وغياب الحداثة بمفهومها الأصيل، كما أن الرفض للحداثة، من الناحية الحضارية، يعد أحد أسباب التناقضات الكبري بين التيار الإسلامي باتجاهاته المختلفة والمجتمع العربي، الذي يسعي منذ عقود إلي التقدم مستعينا في ذلك بأسس الحداثة الغربية. ويقول السيد يسين إن قبول بعض التيارات الإسلامية السياسية بصورة تكتيكية لمباديء الديمقراطية الغربية انما يرجع إلي رغبة هذه التيارات في ان تتاح لها الفرصة من خلال الوسائل الديمقراطية للانقلاب علي الدولة المدنية وتأسيس دولة دينية.
ويطرح كتاب »آفاق المعرفة« السؤال المحوري: ماذا يعني تأثير الطائفية والقبلية علي مجمل العملية السياسية في بلاد عربية متعددة؟ والاجابة هي أن معناه ببساطة أن الركن الأول من اركان أي نظام ديمقراطي وهو المواطنة، غائب تماما. وهذا هو السبب في تعثر عملية الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي. والمواطنة، في معناها الحقيقي، تعني حق الأفراد في التمتع بحقوقهم السياسية والاقتصادية كاملة بغض النظر عن الدين والأصل والجنس. ويري المؤكد أن المواطنة بهذا المعني لم تتحقق في غالبية الدول العربية، وبعبارة أخري، فإنه اذا لم تتعامل الدولة مع الفرد باعتباره مواطنا بصرف النظر علي دينه وجنسه وأصله العرقي له كل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. فإننا سنواجه معضلة كبري لابد من معالجتها اذا أردنا ان نحقق تقدما في الإصلاح السياسي العربي. ويري السيد يسين ان جماعة الإسلام السياسي في مصر لا تمتلك مشروعا متكاملا للنهضة، فهي تريد إقامة دولة دينية يقودها »مجلس أعلي للفقهاء«، وهو في حقيقته تطبيق لمبدأ »ولاية الفقيه« علي الطريقة السنية، علي غرار مبدأ ولاية الفقيه المطبق في إيران علي الطريقة الشيعية. وكل الجماعات الإسلامية تقوم ممارستها في رأي المؤلف علي ثلاثية أساسية مفرداتها هي رفض المجتمع القائم واتهامه بعدم التطابق مع الشريعة الإسلامية، وضرورة الانقلاب علي الأنظمة السياسية العلمانية والديمقراطية وتأسيس الدول الدينية. قضايا كثيرة حيوية تدور حول المستقبل ومجتمع المعرفة في هذا الكتاب القيم الذي يلقي الضوء علي كل مشكلات العصر، ويضع ايدينا علي المفاتيح وكلمات السر التي تتيح حل هذه المشكلات.