تعني الليبرالية حرية الفرد بالاختيار باعتبارها أساساً لفلسفة المجتمع والدولة، وقد نمت الليبرالية مع نشوء البورجوازية وتطورت مع الرأسمالية ونضجت خلال الثورة الصناعية في أوروبا، وأخيراً ومع هيمنة الاحتكارات والعولمة أخذت شكلاً جديداً سمي بالليبرالية الجديدة، وكانت في كل مرحلة تؤقلم مضامينها ومفاهيمها كي تتواءم مع مصالح الأنظمة الرأسمالية. اصطدمت الليبرالية في نشوئها الأول بالنظام الإقطاعي الذي كان سائداً في أوروبا في القرن السابع عشر وتناقضت مع الحكم الكنسي، وبعد انتصار الرأسمالية أقامت الدولة الأمة، ووحدت الإقطاعيات في البلد الواحد وبنت نظاماً سياسياً يعتمد بالدرجة الأولي علي الحرية الفردية التي اتسع مفهومها خارج نطاق الأفراد ليحدد معايير جديدة للدولة الرأسمالية تقوم علي احترام التعددية وحرية الرأي والتعبير والصحافة وإشادة نظام برلماني أساسه التمثيل البرلماني والانتخابات وحكم القانون وفصل السلطات، والسماح بحرية مرور البضائع بين أجزاء البلد الواحد (أي بين الإقطاعيات) وتطبيق الشعار الشهير (حرية العمل وحرية المرور) فضلاً عن حرية التفكير وتحرير الفكر من سيطرة العصور الوسطي وفتح الباب للإبداع العلمي والأدبي والفني وهو ما سمي بعصر الأنوار، وهكذا أسست الليبرالية النظام الذي أطلق عليه فيما بعد النظام الديمقراطي البورجوازي أو الأوروبي. واجهت الليبرالية ممانعة من الطبقة العاملة والفقراء والحركات الاجتماعية في مجال مفهوم الدولة والنظام الرأسمالي الحر مما عدل مفاهيمها فاضطرت أن تلّون سياساتها الاقتصادية بالعدالة وتكافؤ الفرص. وتغير بعض مواقفها من وظائف الدولة، فأعطت لها دوراً مؤثراً نسبياً في حياة المجتمع وحقاً في التدخل هنا وهناك، كما قبلت بتقديم خدمات اجتماعية وصحية وتربوية وغيرها (كالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والتقاعد..الخ) وكان ذلك كله خضوعاً لضغوط الحركات العمالية والشعبية والاجتماعية، وفيما بعد لضغوط الأحزاب والحركات الشيوعية إن لم يكن خوفاً منها، وقد استكملت الرأسمالية الليبرالية دولتها ومفاهيمها وقيمها طوال قرون عدة. تطورت الرأسمالية الصناعية إلي احتكارات وانتقلت هذه إلي مرحلة جديدة هي الشركات متعددة الجنسية، وانتهت الحرب الباردة، وقفزت السياسات الاحتكارية والشركات متعددة الجنسية قفزة جديدة، معتمدة علي نظرية متكاملة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، عنوانها العولمة واقتصاد السوق والخصخصة والتكيف والتضييق علي دور الدولة في حياة المجتمع، وإطلاق المنافسة من دون ضوابط انطلاقاً من فرضية أن تراجع دور الدولة يعطي السلطة الحقيقية لعوامل السوق باعتبار أن آليات السوق تحقق التوازن، وضيقت علي أو ألغت الخدمات الاجتماعية والثقافية والصحية وغيرها. لم ينتبه الليبراليون العرب إلي أن الحاجة ماسة في بلادنا لربط الحرية بالتحرر، والديمقراطية بحاجات المجتمع الذي يتطلع في المرحلة الحالية لدولة لها وظائف حقيقية وليست دولة تنسق بين فئاته فقط، وإن واقعنا العربي القائم يحتاج ديمقراطية تتواءم مع مرحلة التطور الحالية وإلي تحرر اقتصادي واجتماعي قبل الحرية الفردية النفعية المنفلتة، خاصة وأن ملايين الفقراء وهم الأكثرية الساحقة في بلادنا العربية ما زالوا بحاجة لخدمات الدولة الاجتماعية وللضمان والمساعدة فضلاً عن الخلاص من التبعية السياسية والاقتصادية، والتمسك بالعقد الاجتماعي الذي يوازن بين مصالح فئات المجتمع كلها ويلجم تغول فئة علي فئة، حقاً إننا بحاجة للديمقراطية، ولكن لا ينبغي الخلط بين الديمقراطية والليبرالية، فالأولي ليست رديفاً للثانية بالمطلق، وإن كان لابد أن نكون ليبراليين فلننتسب لليبرالية القديمة ونتمسك بالتحرر والديمقراطية ودور الدولة وبالعدالة الاجتماعية وقبل هذا وذاك لنتذكر العلاقة بين الحرية والتحرر.