مازالت نقاشات وأحاديث الديمقراطية والإصلاح السياسى فى مصر وعموم العالم العربى تعانى من صناعة وترويج منظمين لوعى زائف حول عدد من القضايا الرئيسية. فمن جهة، دأب بعض الكتاب والمثقفين العرب على التشكيك فى عالمية الخبرة السياسية الغربية وما أفرزته من صياغة ليبرالية لعلاقة الدولة والمجتمع والفرد المواطن والدفع بعدم صلاحية النموذج الغربى للتطبيق فى البلدان العربية . المقولات المتواترة فى هذا السياق تشير إما إلى خصوصية الغرب فى القرنين التاسع عشر والعشرين بحكم الظاهرة الاستعمارية والثورة الصناعية أو إلى تنوع المسارات السياسية للمجتمعات الأوروبية إذا ما قورنت على سبيل المثال حالة بريطانيا بألمانيا أو إلى أوجه قصور متوهمة فى ديمقراطيات العالم المتقدم من شاكلة الفردية والمادية وتهميش الدين وهيمنة أصحاب الأموال والتكنوقراط. يتقاطع هذا الخطاب مع الأصوات المشددة على خصوصية العالم العربى الإسلامى إن بمنطق المرحلة التاريخية التى تخطاها الغرب ومازلنا نحن نتخبط فى دروبها الصورة النمطية لغرب ما بعد الحداثة فى مقابل أزمة الحداثة العربية أو بمنطق ثقافوى يرى فى حركة بلداننا باستمرار تعبير عن جوهر أصيل خالص يميزها على مستويى القيم والممارسات عن نظائرها فى الغرب ويفرض علينا البحث عن نماذج خاصة بنا لإدارة ترابطات الدولة والمجتمع والسياسة. وواقع الأمر أن فساد مثل هذه النظرة لا يرتبط بالأساس بعدم دقة بعض جزئياتها، وإنما بتجاهلها المشترك العالمى فى الخبرات التاريخية المتنوعة ومعايير التقييم الموضوعى للأخيرة، فضلا عن تناسيها مغزى ظرف العولمة الراهن. لا يمكن إدراك سعى البشرية الدءوب نحو المزيد من الحرية والمساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان إلا باعتباره قيمة عامة تعارفنا وتوافقنا عليها جميعا بعد تجارب مريرة فى شتى بقاع الأرض. تتفاوت بالقطع المسميات والأشكال والأساليب والممارسات فى الزمان والمكان، لكن الحكم على صلاحها من عدمه يظل وثيق الصلة بالقرب من أو البعد عن المضامين الكلية لحركة البشرية. هنا تبدو عبقرية التجربة الغربية الحديثة بشقيها الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الرأسمالى ربما أضفنا ذى البعد الاجتماعى حين التدبر فى بعض الخبرات الأوروبية الغربية - والتى أنجزت أكثر نماذج البشرية رقيا وقربا من الحرية والمساواة والعدالة على نحو جعل من التساؤل حول إمكانيات استلهامها التكرارى الشامل أو الجزئى خارج أوروبا وأمريكا الشمالية أمرا مشروعا بل وشديد المنطقية. وعندما نضيف إلى هذه الحقيقة زمانية العولمة، ليس بالمعنى القدرى الرائج فى نقاشات المثقفين العرب فى سياق رمزية تذكر بطوفان نوح وإنما على أنها تعنى تسارع معدلات التواصل والتفاعل والحراك بين اقتصاديات وسياسات وثقافات ومواطنى أقاليم العالم المختلفة، لفهمنا أن هناك نزعة طاغية نحو التوحد الكونى تتقارب معها تدريجيا توقعات ورؤى إنسان القرن الحادى والعشرين للمستقبل ومعاييره فى الحكم على الأمور بصورة تتخطى حدود الاختلاف بين غرب وشرق، وشمال وجنوب. ومن ذات نافذة التشكيك فى الغرب، يطل علينا أيضا وهم مسئوليته عن الأزمات المتتالية للبلدان العربية. يتوارى فى العديد من الأحيان التعامل النقدى مع مشكلات السياسة والمجتمع فى عالمنا خلف ستار سميك تنسجه أحاديث متواترة عن سياسات القوى الكبرى وانعكاسات صراعاتها منذ القرن التاسع عشر على قضايا المنطقة التى تبدو وكأنها ساحة مفرغة من الفاعلين المحليين وقابلة فقط لفعل أطراف خارجية معادية لا ترغب فى تقدم العرب وتحيك لهم المؤامرات بانتظام. وعلى الرغم من سلامة الاستشهادات التاريخية الموظفة هنا والمرتبطة عادة بحقبة الاستعمار الأوروبى مرورا بتأسيس إسرائيل وانتهاءا بالهيمنة الأمريكية منذ خمسينيات القرن الماضى، إلا أن الهدف الأبعد لمثل هذه الرؤية إنما يتمثل من جهة فى محاولة إعفاء الذات الجمعية العربية من مسئوليتها الفعلية إزاء إشكالياتها الكبرى من تراجع للمعرفة العلمية وتدنى لمعدلات النمو الاقتصادى والاجتماعى وغياب للديمقراطية والحرية ومن جهة أخرى إضفاء رمزية الضحية على عذاباتها الراهنة التى يصبح الأخر الغربى هو المسئول عنها بالأساس بل والمالك الوحيد لقدرة الخلاص النهائى منها. أما إذا انتقلنا إلى باب العلاقة بين نظم الحكم والنخب والجماهير فنلحظ رواجا واضحا لنوع آخر من الوعى الزائف يرتبط بدور الدولة. تنظر الأغلبية الساحقة من المثقفين العرب إلى دور الدولة بصورة تقترب كثيرا من رمزية «الدولة الأب» أو «الدولة الحامية» المسئولة بمفردها عن رخاء المجتمع وسعادة الأفراد فى مقابل ما يقدموه لها من فروض الطاعة والولاء. ولا ترتب هذه الظاهرة، وهى التى ساهمت النخب الحاكمة ومؤسسات الدولة الحديثة فى خلقها خاصة خلال حقبتى الخمسينيات والستينيات، سلسلة لا متناهية من التوقعات المتصاعدة تجاه ما يمكن أن تقوم به الدولة وحسب، بل تؤدى وهذا هو الأخطر إلى انتشار علاقة اعتماد مرضية بينها وبين طبقات وفئات المجتمع وكذلك ذيوع رؤية سلبية لدور الهيئات والمنظمات الأهلية أو بعبارة أخرى النخب غير الحكومية ترى بها على الدوام بديل سيء ومريب للدولة. نحن هنا إزاء ثقافة تبعية وانتظار وشكوى لا تثمن المبادرات الذاتية ومحاولات الفعل خارج الفضاء الرسمى. والواقع أن عملية التحول الديمقراطى لا يمكن لها أن تثمر وتنطلق إلا أن هبط سقف الاستحقاقات المجتمعية المتجهة للدولة ونظر إليها باعتبارها فاعل رئيسى من بين فاعلين عدد يشاركونها المسئولية. فما الذى يدفع دولة يطالبها المثقف ليل نهار بلعب جميع الأدوار على الأصعدة المختلفة وتحاسب إن أخفقت إلى التخلى عن الرغبة، وهى فى هذا السياق منطقية بل ومشروعة، فى احتكار السلطة. تمثل إذن إعادة اكتشاف المفكرين والمثقفين العرب لمسئولية قوى المجتمع عن مستقبله وتفعيل إمكانات الجماهير المغيبة عن نقاشاتهم، إن فى ظل الدفع بأن قسوة ظروف العيش لا تمكن المواطن من ترف الاهتمام بالشأن العام والعمل على التغيير أو بحجة رفض الجماهير للديمقراطية وهيمنة أولويات مغايرة على ذهنيتها الجمعية من شاكلة دولة «الإسلام هو الحل» أو البحث المستمر عن البطل العربى المنقذ، تمثل الوجه الآخر لتحول ديمقراطى وإصلاح سياسى يناط بهما الحد من صلاحيات جهاز الدولة ونخبته الحاكمة.