اصبح حتى للقواميس والمعاجم حروبها الأهلية التى تدور بين المصطلحات بحيث ادى التلاعب بها وبتوظيفها فى سياقات مختلفة الى كثير من الالتباس وسوء التفاهم، فالحداثة مثلا لا تعنى الشيء ذاته فى كل اللغات والثقافات، ولهذا السبب كان احد أبرز من كتبوا عنها وهو هنرى لوفيفر يقول: حداثتنا ويعنى بها الحداثة الفرنسية، اما الالمان فقد اعلنوا موت الحداثة فى بيان برلين عام 1815 كما يقول ماكفرلين، لكن بالرغم من ذلك نحن مضطرون ولو على نحو اجرائى الى استخدام هذا المصطلح وغيره من المصطلحات الى ان تتحرر من الالتباسات . حروب ما بعد الحداثة هى الحروب الاستباقية والتى تهدف الى اجهاض قوة الخصم قبل استكمال نموها، واذا كانت الدولة العبرية التلميذ الأنجب للولايات المتحدة فى فلسفة الاستيطان وابادة السكان الاصليين حيث تجمعهما اسطورة الفردوس الارضى كما سماها الراحل د . عبد الوهاب المسيرى الا ان الولاياتالمتحدة هى التلميذ فى مجال الحرب الاستباقية، لأن اسرائيل اطلقت على جيشها اسما مضللا هو جيش الدفاع، رغم ان سيرته الدموية لأكثر من ستة عقود تجزم بأنه هجومي، لكن ما اشار اليه بن غوريون فى مذكراته يفتضح هذه الاستراتيجية، ويبين السبب الحقيقى لاستخدام الاسماء فى التضليل، فالتسمية لها استراتيجيتها ايضا، وحين اصدر زيغنيو بريجنسكى مستشار الامن القومى الامريكى الاسبق كتابا عنوانه كلمة واحدة هى الفوضى والذى ترشح من صفحاته رائحة الانذار المبكر لم تكن احداث الحادى عشر من سبتمبر قد وقعت وعلى ذلك النحو الزلزالى الذى لم تتوقف تردداته حتى الان وبعد خمسة عشر عاما، ولم تكن الفوضى قد طوّرت وهاجرت من الحداثة الى ما بعدها لتصبح خلاّقة كما وصفتها دبلوماسية امريكية متخصصة فى فقه التفكيك منذ عملت مع الرئيس بوش الاب حين كان يرأس المخابرات، والذى كتب فى مقدمة مذكراته ان خير مدخل للكتابة عن حياته هو قصة شهيرة لمارك توين عن رجل فقد ابنيه لأن احدهما غرق فى النهر والآخر اصبح نائبا للرئيس، اما مصطلح الفوضى الخلاقة الذى اقترحته كونداليزا رايس فقد كان التجسيد الأدق لعسكرة الدبلوماسية الامريكية والتى عبّرت عنها رايس رمزيا بارتدائها خوذة احد الجنود الامريكيين فى مطار عراقى عندما زارت بغداد كى تتلذذ بشكل سادى وهى تنظر الى اطلالها . وبالعودة الى بريجنسكى فهو ممن شملتهم احداث ايلول بمراجعة المواقف بعد ان قلبت الموائد كلها، وكان قد تنبأ قبل تلك الاحداث باستمرار النفوذ الامريكى ثلاثة عقود على الأقل من القرن الحالي، لكن تلك الواقعة لم تدمر ابراجا فقط فى مانهاتن بل حوّرت وبدّلت مفاهيم كانت بمثابة المسلّمات والبدهيات فى التاريخ الكلاسيكى ، أما ما اعلنه موظف فى الادارة الامريكية من اصل يابانى هو فرنسيس فوكوياما عن نعى التاريخ فقد اضطرته تلك الاحداث الى مراجعة موقفه بما يشبه الاعتذار لأن التاريخ الذى نعاه لم يستطع دفنه وانتفض فى تابوته الورقى ومقابره واندلعت فيه قوة جديدة وكأنه بدأ يتعافى ويتصابى كى يلد حروبا جديدة تليق بأدواتها واستراتيجيتها وميتا استراتيجيتها ايضا بحقبة ما بعد الحداثة التى تستمد مبرراتها باثر رجعى بعد ان تضع اوزارها وتظفر بغنائمها كالحرب على افغانستان والعراق، وهذا ما يسمى فى ادبيات الميتا استراتيجية او ما بعدها الشرعية المستدركة، او بمعنى ادق الملفقة وكان برجنسكى قد كرّس كتابه الفوضى لما سيؤول اليه العالم فى مطالع الألفية الثالثة ومن خلال مقارنة سريعة بين مطلع القرن العشرين ومطلع القرن الذى أعقبه تبدو النتائج مشبعة ومشحونة بدراماتيكية مثيرة، فالايام الاولى من القرن العشرين شهدت تفاؤلا نسبيا باستقبال قرن ناعم يَعِد العالم بالحدّ من اسباب الشقاء سواء الناتج عن حروب او مجاعات او نزاعات عرقية وايديولوجية لكن ما تناساه المتفائلون هو ان القرن الذى ودّعوه يومئذ وهو القرن التاسع عشر كان كما يسميه هنرى ايكن قرن الايديولوجيا بامتياز، ففى منتصفه صدر البيان الشيوعى الذى مهّد لثورة اكتوبر بعد صدوره بسبعة عقود وفى تلك الآونة اندلعت حركات اوروبية اطلق عليها اسم الربيع الاوروبى وهو الاسم الذى تمت استعارته لاطلاقه على حراك عربى من طراز آخر ويليق به اسم لا علاقة له بتقاويم الفصول . ما لم يتوقعه المتفائلون باستقبال القرن العشرين هو الحروب التى حدثت فيه وكأن القرن التاسع عشر او قرن الايديولوجيا حبل بتلك الحروب، لكن وفق تقاويم مختلفة عن تقاويم البشر فما يستغرق الحمل به تسعة شهور لدى الانسان قد يستغرق تسعة عقود فى التاريخ وهذا ما حدث بالفعل . لقد مهّد لحروب ما بعد الحداثة تجديد الكولونيالية وتحديث اساليبها وما ارتدته من اقنعة وما نصبته من كمائن وأفخاخ لشعوب القارات الثلاث المنكوبة، وأدى توحش الرأسمالية ذات النمو المشوه والطاووسى كما يصفها مفكر معاصر الى اعادة انتاج قياصرة واكاسرة وقراصنة ايضا لكن بطبعات منقّحة . وما اسفرت عنه حروب ما بعد الحداثة لم يكن غنائم خالصة، بل هو اعباء اخلاقية وتورط واستنقاع، لهذا اصدر برجنسكى كتابا اخر بعنوان الفرص الضائعة متهما ثلاثة رؤساء بالتخلى عن الدور المأمول لامبراطورية زعمت ذات يوم وعلى لسان روزفلت بأنها شرطى العالم وقدرها التاريخى هو ان تؤمرك هذا الكوكب كى تحرسه، وبالمقابل عاد صاحب اطروحة صراع الحضارات صاموئيل هاتنجتون ليستدرك ما قاله من قبل فى مقالة نشرت فى مجلة الفورين افيرز اهم ما جاء فيها ان امريكا اصبحت ماهرة فى اختراع الاعداء على امتداد هذا العالم وكأنها لم تطق البطالة بعد ان حسمت الحرب الباردة لصالحها، فالامبراطورية الاخيرة فى التاريخ ذات بوصلة اخلاقية معطوبة بتعبير جان بول سارتر، ومن يملك القوة وحدها بلا اى هاجس للعدالة غير مؤهل لقيادة العالم، وهذا ما حدث بالفعل، فقد اخترعت امريكا من الاعداء من يفوق حاصل جمعهم الاتحاد السوفييتى السابق، لكن ينقصهم المايسترو ويعزفون بشكل منفرد ! ان المفارقة فى حروب ما بعد الحداثة هى انها جعلت من المنتصر ميدانيا مهزوما بمقاييس اخرى، ومن المهزوم منتصرا، لكن بمقاييس غير برغماتية، هى التراجيديا والتى تقع خارج المدار الامبراطورى لامريكا التى لم تكن سيرتها بين شركة الهندالشرقية واحداث عام 1620 وبين هذا العام سوى ابادة السكان الاصليين واعادة انتاج القيصر وكسرى والقرصان لكن بطبعات فاخرة واغلفة من جلود الضحايا !! لمزيد من مقالات خيرى منصور