مُعجم الحروب الباردة خيري منصور لم يَرْق التّلاسن السياسي بين الكرملين والبيت الأبيض الى مستوى يهدد بعودة خطاب الحرب الباردة وأدبياتها الإعلامية، فالعالم تغيّر كثيراً منذ حرب السويس وأحداث خليج الخنازير، وثمة من أصابتهم “الأنيميا" مقابل من تورموا حتى ظنوا بأن الورم شحم كما قال جدنا المتنبي. ما علق به الرئيس بوش على الموقف العسكري الروسي في جورجيا يعيد الى الذاكرة شيئاً منسياً من خطاب الحرب الباردة، فروسيا وصفت بالتوحش، وانتهاك المصائر الإنسانية في جورجيا، وهو كلام لا يقل من حيث منسوب التوتر فيه عما قيل عشية دخول الدبابات الروسية الى براغ قبل أربعين عاماً. وقد تنتهي الحروب، وتضع أوزارها، لكن ثقافتها ومعجم مفرداتها يبقيان الى زمن طويل، لأن أساليب التفكير وأنماط التعامل مع الظواهر، سواء أكانت عسكرية أم اقتصادية أم سياسية، لا تزول بسرعة. لقد حاول بوتين الذي هبط من موقعه الى موقع آخر، لكن بمظلة آمنة، أن يعيد الى موسكو شيئاً من الهيبة الضائعة، بعد سنوات البيروسترويكا وحالة الترنح التي جسدها يلتسين حتى بحالته الصحية، واستطاع بالفعل أن يقدم صورة ذات دلالات عدة على أن روسيا لم تفقد عافيتها. فقد تعمّد أن يظهر بمظهر قوي ومتماسك سواء وهو يلعب الكاراتيه أو يمشي بقامة مسرحية منتصبة ومدربة لعقود في الكي.جي.بي، لكن التظاهر بالقوة لا يعني القوة بالفعل، كما أن التظاهر بالثروة قد يؤدي الى مضاعفة الفقر. روسيا، التي تقلب بين وقت وآخر ملف عشرينات القرن الماضي، وما بشر به الحالمون بما يسمى قلب العالم، تراوح منذ زمن بين مدّ وجزر وبين صوت يرتفع ليعلن العصيان وصوت يتهدج تحت ضغط الظروف الموضوعية التي لا يمكن التعامل معها بإفرازات ووسائل النرجسية القومية الجريحة. إن حسابات ما بعد الاستراتيجيات بمعناها الكلاسيكي أو ما يسمى في معجم ما بعد الحداثة “الميتا استراتيجية" تدفع الطرف الأقوى الى مراجعة نفسه، والبحث عن طرق التفافية تتيح له ضمانة التفوق على الأقل في المدى المنظور، وهذا ما فعلته واشنطن مع بكينوموسكو، وحتى أوروبا لكن بدرجات متفاوتة، وكان من أبرز من تحدثوا عن العقود الثلاثة الأولى والقادمة من القرن الحادي والعشرين بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، وقد حذر الولاياتالمتحدة من الإركان الى التفوق والتمدد الى المستقبل لمجرد أن الحرب الباردة حسمت لمصلحة أمريكا والرأسمالية ولو الى حين. ومن المعروف أن أحداث سبتمبر/ أيلول عام 2001 كانت بمثابة الجملة المعترضة التي أفسدت على متوالية الثقة والانتصار الأمريكية سلاستها، فقد شعر الأمريكيون في ذروة التفوق بأن هناك حسكاً أو عظماً في اللحم الذي يلتهمونه، سواء أكان من أجساد البشر أم من أجساد الحيوان. خطاب الحرب الباردة لم يغرب بزوالها، فهو قابل للانبعاث من رماده، وجورجيا مجرد واحدة من المناسبات الصالحة لإثارة هذه “الفوبيا" الساخنة عن أكثر الحروب برودة في التاريخ. عن صحيفة الخليج الاماراتية 14/8/2008