روسيا والعودة إلى الحرب الباردة د. حسين حافظ تطلع العالم بقادته وشعوبه حين بدأت سياسة الوفاق الدولي تؤتي أكُلها بين الاتحاد السوفييتي السابق والولاياتالمتحدة، على أن المجتمع الدولي يسير على هدى سياسة راشدة سوف تجنبه شرور حرب كونية قد تأتي على كل مدنية العصر وإنجازاته، وبعد فترة وجيزة بدا أكثر انشغالاً بالسياسة الأمريكية التي بدأت بتوسيع حلف شمال الأطلسي ليضم العديد من دول أوروبا الشرقية ويلامس البيئات الأكثر خطراً في العالم. لم تدع روسيا للانضمام إلى الحلف رغم أنها وبعد عام 1991 لم تعد دولة شيوعية أو تشكل خطراً يهدد الغرب، لقد تخلت بالمرة عن أيديولوجية الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا وانتقلت السلطة فيها ليس عن طريق المؤتمرات التي كان يعقدها الحزب الشيوعي، بل عن طريق صناديق الاقتراع إلى يلتسين ومن ثم إلى بوتين، وتم تبني اقتصاد السوق على حساب (لكل حسب حاجته) وكان ينبغي ومنذ ذلك الحين دمج روسيا الخارجة تواً من اتحاد كان يقض مضاجع الغرب والولاياتالمتحدة بحلف الأطلسي، تماشياً مع منطق التغيير الذي بدل وجه العالم، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل. وأصبحت البيئة الدولية والإقليمية لروسيا أكثر حراجة لا سيما بعد أن رفض طلبها الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية عام ،1993 وكذلك فإن تكتل أذربيجان وجورجيا وأوكرانيا واستونيا الذي نشأ على انقاض الاتحاد السوفييتي السابق والمدعوم أمريكياً قد أثر بشكل جاد في دول الاتحاد الروسي، ومطالبة دول البلطيق بالاعتذار عن سنوات الاحتلال السوفييتي السابق لها منذ الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1991 شكل إحراجاً آخر، وكأنها الوريث الشرعي لكل أخطاء الحقبة السوفييتية الغابرة. وانتهاكات الدول الثلاث استونيا ولاتفيا ولتوانيا لحقوق الأقليات الناطقة بالروسية وسياسة التفرقة التي انتهجتها حيال هذه الأقليات اعتبرتا من الضواغط السياسية المهمة لتوجهات روسيا الإقليمية، في الوقت الذي بدأ فيه الأمن الإقليمي أكثر حراجة، حين بدأ الحديث عن “الدرع الصاروخية" التي تعتزم الولاياتالمتحدة نشرها في بولندا والتشيك واعتبر تهديداً جدياً ليس لأمن روسيا فقط بل لكل دول معاهدة الأمن الجماعي السبع روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان. إن هذا التصعيد، وهذه المواقف المتشنجة يمكن أن يعيدانا إلى استذكار الحرب الكلامية التي دارت بين بوتين وبوش منذ 29 إبريل/ نيسان 2005 والتي مثلت بداية احتكاك روسي أمريكي جديد وفي أكثر البيئات السياسية أهمية للولايات المتحدة. فلدى زيارة بوتين إلى رام الله بين 26-29 إبريل/ نيسان 2005 وصف الديمقراطية الأمريكية بأنها ساذجة وعقيمة، ودعا إلى عقد مؤتمر سلام للشرق الأوسط في روسيا، الأمر الذي قوبل برفض “إسرائيلي" أمريكي مشترك. وهو يعني رفضاً لأي فاعلية روسية مستقبلية في بيئة يُعتقد أنها جُيرت لمصلحة الولاياتالمتحدة منذ زمن بعيد. ردة الفعل الأمريكية جاءت سريعة ومباشرة، إذ بدأت بزيارة الرئيس الأمريكي لدول البلطيق الثلاث (أستونيا ولاتيفيا وليتوانيا) في مايو/ أيار من العام نفسه، وقد استُهلت بتصريح واضح كان يتضمن بين ثناياه، الكثير من الإساءة لروسيا حين وصف هذه الدول بأنها قد خرجت من رحم الدكتاتورية إلى رحاب النظام الحر في إشارة واضحة إلى روسيا باعتبارها وريثة الدكتاتورية السوفييتية، وكذلك الوصف الأمريكي لديمقراطية لاتيفيا بأنها نموذج للحرية والديمقراطية بما يتناقض مع وصف الرئيس الروسي لها بأنها تنتهج سياسة عنصرية إزاء الناطقين بالروسية، لكن التصعيد الخطير بدأ من خلال وصف نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني لموسكو بأنها بدأت بالتراجع عن الديمقراطية، الأمر الذي دفع الرئيس بوتين إلى وصف الولاياتالمتحدة خلال خطابه السنوي الأخير ب “الرفيق الذئب" الذي لا يريد الاستماع إلى أحد والذي يتناسى في خطاباته كل حقوق الإنسان عندما تتعارض مع مصالحه، وقال ساخراً: إن الذئب الأمريكي لا يستمع لأحد، ولا نية لديه في الاستماع. لكن نقطة الافتراق الرئيسية الاخرى في هذه المرحلة، هي الرفض الروسي لاستقلال كوسوفو، وقد يمتد الخلاف ليشمل ملفات أخرى كالملف النووي الإيراني، والموقف مما يجري من ترتيبات في الشرق الأوسط، وهذه هي نقاط افتراق رئيسية يمكن أن تبدأ من خلالها روسيا العودة ليس إلى أجواء الحرب الباردة فقط بل العودة إلى سباق التسلح، وهو ما يجعل العالم أكثر اضطراباً وأقل أمناً، وعلى حد قول هنري كيسنجر، إن المشكلة العالمية الأساسية لا تتمثل اليوم في التوسع الأمريكي فحسب، بل في احتمال انتشار الأسلحة النووية ونشوب نزاع نووي. عن صحيفة الخليج الاماراتية 24/7/2007