لم يعد هناك شك أن حربا باردة قد بدأت بين موسكو وواشنطن منذ إعلان الولاياتالمتحدة عن مشروعها الجديد بإقامة محطات للانذار واطلاق الصواريخ في كل من بولندا وتشيكوسلوفاكيا. هكذا تذهب معظم المراكز البحثية في كثير من دول العالم خاصة بعد أن تحول فلاديمير بوتين الرئيس الروسي الحالي من موقع الرجل المهموم بلم شتات روسيا ووضعها من جديد علي الخط بعد أن كادت درجة الانهيار في التسعينيات أن تضع روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي المنهار في مصاف دول العالم الثالث وإلي القائد الواثق من نفسه والقادر علي مواجهة القطب الأوحد الذي انفرد بالسيادة علي الساحة الدولية لأكثر من عقد من الزمان. لقد جاء فلاديمير بوش إلي السلطة في أوائل القرن سنة 2000 والاقتصاد الروسي يعاني من انهيارات متتالية كانت نسبة النمو فيه تصل تحت الصفر، ونسب البطالة ترتفع إلي آفاق غير مسبوقة وكذلك التضخم وسيطرة مجموعة من البارونات الجدد الذين احتكروا الاقتصاد الروسي وخاصة البترول والطاقة مستبعدين إلي الحد الأقصي من القرض الاقتصادية ومعتمدين علي مساندة قوية خارجية خاصة الولاياتالمتحدة التي حاولت استغلال فرصة تحلل الاتحاد السوفيتي لتفجير روسيا وشلها عن التقدم. ومن الواضح أن الرئيس الروسي انتهج في مرحلة ولايته الأولي ما يمكن أن يطلق عليه بسياسة المهادنة مع الحزب الأوروبي والأمريكي بشكل خاص وعندما توسع حلف الاطلنطي ليضم دولا كانت ضمن الاتحاد السوفيتي السابق مثل جمهوريات البلطيق اكتفي بالاحتجاج الهادئ مع عدم التصعيد رغم الاعلان بأن وصول حلف الاطلنطي إلي أطراف الحدود الروسية يمثل انتهاكا وتهديدا للأمن الروسي. لكن بوتين المتهاون في ولايته الأولي داخليا وخارجيا يتحول مع بداية ولايته الثانية إلي بوتين المهاجم بعد أن حد من نفوذ أباطرة القطاع الخاص وسجن بعضهم ولجأ آخرون إلي دول أوروبية ووضع خطة وبرنامج للتطوير الاقتصادي أدي إلي خفض كبير في معدلات التضخم وزيادة معدلات الانتاج وتحويل العملة الروسية إلي عملة صعبة تنافس اليورو والدولار. إن ما يشبه المعجزة الاقتصادية التي حققها بوتين في سنوات قليلة اعتمدت ولا شك علي دراية كاملة بالامكانيات الهائلة التي تمتلكها روسيا ممثلا في ثرواتها الطبيعية الكبيرة خاصة في مجال البترول والغاز وفي وجود بنية أساسية قوية وصناعات متقدمة مع وجود وتوافر كادر فني علي مستوي عال من التخصص المعرفي. وعلي النطاق العالمي بدأت روسيا ترسم لنفسها سياسة جديدة معتمدة علي أنها مازالت ثاني ان لم تكن أول دولة نووية تمتلك ترسانة هائلة من الاسلحة المتقدمة والمتطورة مع انعاش واضح للأبحاث العسكرية التي تفوقت فيها روسيا ومن قبل الاتحاد السوفيتي وتحقيق نتائج كبيرة في هذا المجال. وعمل بوتين علي عقد اتفاقيات استراتيجية مهمة مع الصين واستطاع أن يزيل أثار ثلاثة عقود من العداء بين موسكو وبكين أيام الاتحاد السوفيتي والخلافات الايديولوجية كما شارك في تأسيس مجموعة شنغهاي التي تضم اضافة إلي الصين كلا من الهند ودول وسط آسيا مثل اذربيجان وتركستان ومنغوليا وكيرخزيا. وبدأت روسيا تعلن بوضوح عن معارضتها للسياسات الدولية الأمريكية وكان الموقف الروسي ضد العدوان الأمريكي علي العراق والتنسيق مع الصين وبعض الدول الأوروبية الأخري مثل ألمانيا وفرنسا في ذلك الوقت تشكيل جبهة معارضة كما بدأت روسيا تعلن معارضتها لكثير من المواقف الأمريكية بالنسبة للشرق الأوسط وإيران وفلسطين. إن فلاديمير بوتين الذي امتزجت فيه تربيته ونشأته القومية الروسية والاشتراكية السوفيتية كان من السهل عليه أن يدرك أن تغييرات مهمة تجري علي الساحة العالمية والاقليمية وكلها تؤكد فشل السياسات الأمريكية وغرق العسكرية الأمريكية في مستنقع العراق ومحاولة الهروب من هزيمة مؤكدة لا تقل عن هزيمة فيتنام في السبعينيات. وبدأت لهجة وإجراءات المسئولين الروس تتخذ لهجة جديدة في مواجهة محاولات السيطرة والهيمنة الأمريكية لعلها بدأت موضوع في الخطاب الذي ألقاه بوتين منذ عام أمام مؤتمر الأمن الأوروبي الذي عقد في ميونخ حين أعلن بوضوح أن الولاياتالمتحدة تحاول فرض هيمنتها وسيطرتها علي العالم وانها تتجاوز كل القوانين والاعراف الدولية كما سخر بوتين من التبريرات التي قدمتها أمريكا لاقامة مشروع قواعد الرادار والصواريخ المضادة في كل من بولندا وجمهورية التشيك وكلتهما كانت عضوا في حلف وارسو ومستفيدة من البنية العسكرية التي أقامها حلف وارسو في العقود الماضية. وقال بوتين إن ادعاء الولاياتالمتحدة في إقامة هذا المشروع العدواني بغرض حماية أوروبا من أي عدوان إيراني أو شرق أوسطي يدعو إلي السخرية فمن الواضح أن الهدف هي روسيا وربما دول آسيوية أخري يعني الصين المهم أن هذا الهجوم الروسي علي سياسات الولاياتالمتحدة ذكر الكثيرين بأيام الحرب الباردة والخطاب الساخن والمتبادل بين القطبين أيام الثنائية الوطنية وقد وصفت دوائر البيت الابيض الأمريكي كلمات الرئيس بوتين بأنها استفزازية وتحتوي علي لهجة الحرب الباردة أما روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي فقد وصف اتهامات بوتين لأمريكا بأنه كلام فظ وغير مقبول. ومنذ العام الماضي وحتي اجتماع الثمانية الكبار مؤخرا في ألمانيا كانت ومازالت قضية شبكات الرادار والصواريخ التي تزمع أمريكا اقامتها في بولندا وجمهورية التشيك تأخذ خطا متصاعداً اليس فقط بالنسبة لتبادل الاتهامات بل واللاجراءات العملية التي بدأت روسيا اتخاذها بالفعل. وكانت البداية هي اعلان روسيا عن وقف العمل بالاتفاقية الخاصة بخفض القوات والاسلحة التقليدية التي كانت قد وقعت بين الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة وبعدها أعلنت روسيا عن صاروخ جديد عابر للقارات يصل مداه إلي آفاق غير مسبوقة في عالم الصواريخ ثم الاعلان عن أن روسيا ستبدأ في توجيه عدد من صواريخها نحو أوروبا في حالة اصرار الولاياتالمتحدة علي إقامة هذه القواعد الصاروخية في أوروبا. وكان آخر اقتراح تقدمت به روسيا هو اشتراك الولاياتالمتحدة مع روسيا في قاعدة الرادار التي تستأجرها جنوب أذربيجان لمراقبة حركة اطلاق الصواريخ ليس فقط بالنسبة لايران بل ولكل أرجاء الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية، وذلك كبديل لمشروع النشر والدرع الصاروخي الأمريكي ولكن أمريكا ردت علي لسان وزير الدفاع جيتس بأن الاقتراح الروسي يمكن مناقشته ولكنه لن يكون بديلاً عن الدرع الصاروخي. ويبدو واضحا أن الرئيس بوتين الذي سيترك الرئاسة في ابريل من العام القادم يعمل علي فرض روسيا مرة أخري كقوة دولية كبري لابد وأن يعمل لها الآخرون ألف حساب ومثلما قال وزير الخارجية الروسي سيرجي ايفانوف إن بلاده لها كل الحق في المشاركة في صناعة القرارات الدولية وأنها ليست الاثنين لقبول قرارات ضد رغبتها وضد مصالحها.