الصواريخ السياسية الروسية الأمريكية التي انطلقت عشية انعقاد قمة مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبري التي بدأت أعمالها في مدينة هايلينفندام الألمانية كشفت عن وجود تحولات في موازين القوي الدولية لم يعد بإمكان إدارة واشنطن تجاهلها أو التعامل معها بخفة. فالكلام الساخن الذي سبق انعقاد القمة أعاد رسم التوازن الذي انكسر في العام 1991 لمصلحة كفة الحلف الأطلسي "الناتو". والرد الروسي علي سياسة نشر الصواريخ في بولندا والتشيك جاء ليشير إلي وجود قلق أمني ترفض قيادة الكرملين التعايش معه. مسألة "الدرع الصاروخي" ليست بداية التوتر ويرجح ألا تكون نهايته. فالقلق بدأ منذ نحو سنتين وتطور خطوة خطوة وصولا إلي "الدرع" الذي تقول واشنطن إنه لا يستهدف موسكو وإنما "الدول المارقة" في الجنوب أو تلك الدول التي تهدد أوروبا بالقصف الصاروخي. ذريعة أمريكا لم تقبلها روسيا. فالإدارة أرسلت وزيرة خارجيتها قبل فترة لتبحث مع المسئولين الروس المسألة وتطمئنهم بشأنها. ولكن كونداليزا رايس لم توفق في اقناع الكرملين بالأسباب التي دفعت "البيت الأبيض" إلي نشر صواريخ باليستية بالقرب من حدودها الغربية وفي منطقة تعتبر استراتيجيا حديقة خلفية لأمنها القومي. تقديم الصواريخ ونقلها من أوروبا الغربية إلي الشرقية "المعسكر الاشتراكي سابقا" ليس مسألة عابرة. فالصواريخ بعيدة المدي وعابرة للقارات أي انها تشكل محاولة لاختصار المساحات الجغرافية واختزال الزمن لمصلحة الجانب الأمريكي. وهذا التطور في التوازن الصاروخي "الاقتراب من الأهداف" ليس تفصيلا بسيطا في حسابات الدول الكبري. لذلك تخوفت موسكو من الخطوة وأعربت عن قلقها ورفضت كل التفسيرات والتطمينات والضمانات التي حاولت واشنطن تسويقها إعلامياً. السؤال: لماذا قررت الولاياتالمتحدة الإقدام علي اتخاذ هذه الخطوة وهي تعلم أنها ستؤدي إلي استفزاز روسيا الاتحادية؟ هناك احتمالات كثيرة يمكن ترتيبها داخليا وأوروبيا ودوليا. من الناحية الداخلية تواجه الإدارة الجمهورية سلسلة ضغوط من الشارع والحزب الديمقراطي بشأن حروب التقويض التي شنتها في السنوات الست الماضية وأعطت نتائج تعاكس توجهات تيار "المحافظين الجدد". ويحتمل أن تكون هذه الخطوة التي قررتها إدارة جورج بوش محاولة يائسة لفك العزلة داخليا من خلال إثارة أجواء توتر دولية تستنفر القوي آلمحلية بهدف انعاش مناخات "حرب باردة" جديدة. فالعودة إلي أجواء تلك الحرب يرفع من نسبة ذكريات صعبة شكلت مادة خصبة آنذاك لأجهزة المخابرات المركزية للتلاعب بوعي الرأي العام وتنظيم سلوكياته وأولوياته. وربما افترضت الإدارة أن هذا النوع من التلاعب بالمشاعر يغطي علي تلك التحركات السياسية والحشيد العسكري الجاري في مناطق أخري. فالإدارة لم تعترف حتي الآن بالفشل وهي تراهن علي نجاح خطتها الأمنية في العراق وتعتبر انها حققت انجازات هائلة في مختلف المناطق، ولذلك أقدمت علي نشر الصواريخ في شرق القارة الأوروبية لضمان سير مشروعها في "الشرق الأوسط الكبير". هذا التفسير رفضته موسكو وأكدت أن المنظومة ليست دفاعية بل هي خطوة هجومية تحت غطاء لا مبرر له. كذلك ردت طهران علي ادعاءات واشنطن وأكدت أن كلام إدارة بوش عن احتمال توجيه إيران صواريخها إلي جنوب أوروبا وشرقها مجرد أكاذيب أطلقت للتهويل والتخويف. من الناحية الأوروبية تبدو إدارة واشنطن في العلاقة مع القارة في وضع مريح قياسا بالسابق بعد غياب المستشار شرودر عن المسرح السياسي الألماني ثم مغادرة الرئيس الفرنسي جاك شيراك قصر الإليزيه. أمريكا الآن تمر بفترة "شهر عسل" مع ألمانيا وفرنسا وهذا اعطي بوش بعض المقويات التي كان يحتاج إليها لانعاش ذاكرته وتنشيط ملفات قديمة تردد سابقا في فتحها. وربما تكون خطة نشر الصواريخ "الدرع" محاولة جس نبض للحلفاء الجدد وبداية اختبار لمدي متانة العلاقة مع القوتين المضافتين للولايات المتحدة في سياسة التجاذب القائمة منذ فترة مع المحور الروسي. ويمكن القول إن هذه الخطوة "التقدم الصاروخي باتجاه حدود روسياالغربية" تستهدف إعادة تشكيل مظلة سياسية واقية تضمن الدور الأمريكي في القارة لمساحة جغرافية أوسع ومسافة زمنية أقصر تعطي أفضلية للكفة الأطلسية في معادلة التوازن التي خسرتها موسكو بعدانهيار "الحرب الباردة". من الناحية الدولية تبدو ادارة بوش في حالة صراع مع الوقت وهي تسارع إلي اتخاذ خطوات عشوائية غير مدروسة بهدف اعادة ترتيب علاقات ولعب أوراق وتثبيت مواقع تضمن الحد الأدني من التنازلات او تخفف نسبة الخسائر التي سجلت ضدها ويمكن ان تخسر اكثر في حال استمر تعديل التوازن في السياق الذي هو عليه الآن، فالعالم اليوم تغير شكله عن تلك الصورة التي ظهر عليها بعد عام 1991 وسياسة القطب الواحد التي نقلت الدول من اطار الحرب الباردة إلي اطار السلم البارد اصيبت بالشلل وبدأت تتفسخ في اكثر من مكان، ففي القارة الجنوبية اللاتينية تراجع النفوذ الامريكي وأخذت هيبة واشنطن تتراخي بعد سلسلة الهزائم الانتخابية الديمقراطية في خمس دول وفي افريقيا لم تعد شعوب القارة ودولها تصدق تلك الوعود الكاذبة بالمساعدات والمعونات والاستثمارات وخفض فوائد الديون، وفي آسيا بدأت دول النمور تستفيق من تلك الضربات الاقتصادية والمالية (البورصة) التي تعرضت اليها في منتصف تسعينيات القرن الماضي وبدأت تعيد انعاش قواها لتتجاوز حافة الانهيار، أما الهند والصين وروسيا فإنها تشهد منذ خمس سنوات قفزات هائلة في نموها الاقتصادي أدت إلي توسيع سوق الاستثمارات ومراكمة احتياطات نقدية تلبي حاجاتها الداخلية للتوظيف في مختلف القطاعات التقنية والانتاجية، وتعتبر موسكو في هذا الشأن مفاجأة غير متوقعة حين نجح الرئيس فلاديمير بوتين في نقل روسيا من دولة منهكة تحتاج إلي معونات غريبة إلي دولة تتقدم اقتصاديا وتراكم الاحتياطات النقدية في خزينتها فموسكو وفي أقل من ثماني سنوات لم تعد عاصمة تتحكم بها عصابات المافيا بل قطعت تلك الأشواط الضرورية لاعادة تجديد مواقعها وتحسين صورتها وتنشيط هيبتها الدولية، وحين تنتقل روسيا في أقل من عقد من دولة مفلسة إلي دولة تستطيع الاستغناء عن الهبات النقدية والمعونات الأوروبية فمعني ذلك أن امريكا بدأت تفقد سيطرتها علي اللعبة الدولية. عودة موسكو إلي الساحة بعد غياب قسري دام نحو 15 عاما تشكل دافعا اساسيا من وراء لعبة تقديم الصواريخ الأمريكية ونقلها أو توسيع نشرها من غرب القارة إلي شرقها فالزحف الأمريكي إلي حدود روسياالغربية ليس حركة عسكرية بقدر ما هو خطوة سياسية تريد استفزاز موسكو واثارة مشاعر دفينة تحرك ذكريات الحرب الباردة. بوش نفي هذا الامر وجدد مرارار بأن الحرب الباردة انتهت وان الصواريخ ليست موجهة إلي الشرق وانما إلي الجنوب لمواجهة تهديدات الدول المارقة ولكن الرئيس الامريكي ألحق نفيه بسلسلة انتقادات للاصلاحات والعملية الديمقراطية في روسيا والصين في آن وهذا الانحراف في النقد السياسي لتوجهات دولتين كبريين في العالم يؤكد تلك الاستفزازات الايديولوجية التي تقارب كثيرا تصريحات تحريضية سبق واطلقها الرئيس رونالد ريجان في عهده ضد امبراطورية الشر. الكلام الأمريكي عن منظومة الصواريخ الدفاعية متناقض ويحتمل اكثر من تفسير فالصواريخ سياسية وهي عابرة للقارات وهي هجومية وليست دفاعية وتعكس رغبة في الانتقال من السلم البارد إلي فترة الحرب الباردة وهذه العودة تعتبر ردة إلي الوراء، وكذلك ردة فعل غير مستحبة علي بداية نمو في موازين القوي يرجح إلي ان يعدل التوازن الدولي في حال استمر الوضع يتطور في السياق مستقبلا. الاحتمالات اذاَ كثيرة وهي تفتح الباب أمام توقعات كثيرة منها ان واشنطن ارادت من نشر الصواريخ فتح باب التفاوض عليها مع موسكو مقابل تنازلات روسية مقابلة ومنها انها ارادت توجيه رسالة تطمين لأوروبا واختبار نوايا القارة في ضوء التحولات السياسية الأخيرة، ومنها انها تعكس ذلك القلق من عودة نمو القوة الروسية المعززة دوليا بتحالفات متينة مع الصين والهند. الاحتمال الاخير ربما يكون الأقوي واذا كان هو المرجح فمعني ذلك ان الصواريخ السياسية التي اطلقت بين موسكووواشنطن عشية انعقاد قمة الدول الصناعية في ألمانيا تؤشر علي بداية استنهاض شروط العودة من "السلم البارد" إلي "الحرب الباردة".