تجتاح مصر الآن انتفاضة محمودة لإصلاح وتطوير التعليم بها، حيث قامت الدولة بإنشاء هيئات تضم كبار المفكرين وخبراء التعليم لإصلاح التعليم وتطويره ، كما أن الدولة الآن بصدد وضع خطة شاملة لبناء المدارس ذات المستوى المتميز ليتواكب مع العصر، وقد جاءت هذه الانتفاضة المحمودة لشعور المسئولين فى الدولة بأن مصر تمر بمرحلة خطيرة تهدد مستقبلها الحضارى نظرا لفساد منظومة التعليم بها. فهناك حكمة تقول إن الغذاء الفاسد يفسد الجسد أما التعليم الفاسد فإنه يفسد العقل الجمعى للمجتمع فيودى به إلى غياهب المجهول الذى تحكمه الأفكار السوداء الفاسدة ليعيش فيها طيور الظلام بأفكارهم السوداء المدمرة للمجتمع والدولة. ومن أخطر أسباب فساد التعليم فى مصر سواء الجامعى أو قبل الجامعى هو سياسة القبول بالجامعات، هذا الموضوع يجب أن يلقى عناية بالغة سواء من وزارة التعليم أو هيئة الحكماء التى كونتها الدولة. فمن المعروف أن نظام القبول فى الجامعات يعتمد على مجموع الدرجات الجامدة التى يحصل عليها الطلاب فى امتحان الثانوية العامة نتيجة لنظام تعليمى فاسد يعتمد على التلقين وملكة الحفظ والاسترجاع عند الطلاب دون الأخذ فى الاعتبار مواهب الطلاب ومدى استعدادهم الذهنى لتقبل الدراسة فى الكليات التى يوزعهم عليها مكتب التنسيق. ويرجع ذلك إلى فشل المدرسة الوطنية التى أهملت حتى بلغ عدد التلاميذ فى الفصل الواحد نحو 100 تلميذ، مما استحال على المدرسين القيام بمهامهم التعليمية والتربوية فانتشرت الدروس الخصوصية وأصبحت لها كيانات تسمى مراكز الدروس الخصوصية ( السناتر كما يطلقون عليها!!) التى هجر الطلاب المدرسة إليها لأنها تتيح للطلاب الحصول على درجات مرتفعة تفيدهم فى السباق المحموم للالتحاق بالجامعات والكليات القمة خاصة من خلال نظام القبول الذى لا يعتمد على هذه الدرجات الجامدة، حيث اتبعت هذه المراكز طرقا شاذة فى التعليم بأن حولت معظم المقررات إلى أسئلة وأجوبة يحفظها الطلاب عن ظهر قلب، فقتلت فيهم ملكة التفكير والإبداع، ونتيجة لذلك برزت ظاهرة حصول بعض الطلاب على 100% من الدرجات وقد ثبت أن هذه الدرجة المميزة جدا لا تدل على المستوى العلمى لهؤلاء الطلاب، بل هى أدنى من ذلك بكثير، فكان من الطبيعى أن ينعكس ذلك سلبا على نظام القبول بالجامعات الذى يعتمد أساسا على هذه الدرجات غير المعبرة عن حقيقة المستوى المعرفى للطلاب، دون أن يكون للجامعة رأى فى نوعية الطلاب الملتحقين بها فامتلأت مدرجات الجامعة بطلاب كارهين للدراسة التى يتلقونها. وقد أجريت دراسة على مستوى الطلاب على هذه الدرجات المرتفعة فى بعض كليات القمة، فوجد أن بعض هؤلاء الطلاب يفشلون فى الدراسة بهذه الكليات، بل بعضهم يفصل من السنوات الأولى. وبشكل عام فإننا نحصل على خريجين يفتقدون القدرة على الإبداع فى تخصصاتهم. هذه هى المأساة التى يعيشها التعليم فى مصر الآن، والسبب الرئيسى فى ذلك بجانب أسباب أخرى هو نظام القبول فى الجامعات الذى تسبب فى فساد التعليم الثانوى بظهور ظاهرة مراكز الدروس الخصوصية التى دمرت التعليم الثانوى بهجرة الطلاب إليها، وتركهم المدرسة الوطنية وكذا فساد التعليم الجامعى لأن مكتب التنسيق يوزع الطلاب نتيجة للدرجات الجامدة التى يحصلون عليها من نظام تعليمى فاسد دون أن يكون للطلاب والجامعة رأى فى ذلك، فكان ذلك سببا فى انخفاض مستوى خريجى الجامعات. فإذا أردنا إصلاحا حقيقيا للتعليم قبل تطويره فيجب علينا أن نوجد نظاما جديدا للقبول بالجامعات لا يعتمد فقط على الدرجات الجامدة التى يحصل عليها الطلاب فى امتحان الثانوية العامة الذى أصبح مرضا اجتماعيا . ولذا فإن الأمر يستلزم جعل المرحلة الثانوية نهاية مرحلة وليس امتحانات سابقة للالتحاق بالجامعة، وبذلك نكون قد قضينا على ظاهرة مراكز الدروس الخصوصية التى أنشئت من أجل هذا الهدف فقط. وكذا مواهبهم واستعدادهم الذهنى للكليات التى يرغبون الالتحاق بها، وذلك أسوة بما يتم فى جامعات العالم المتقدم التى آلت على نفسها تطوير نظم القبول ولم تتركه جامدا لفترة تزيد على نصف قرن كما فعلنا نحن بنظام القبول فى جامعاتنا مما تسبب فى إصابة جامعاتنا بحالة من الجمود والترهل أثر سلبيا على مخرجات العملية التعليمية والبحثية فى جامعاتنا، على أن يكون تقدم الطلاب لهذا الامتحان ليس مقصورا على سنة الحصول على الثانوية العامة بل يتقدم الراغب للالتحاق للجامعة عندما يجد فى نفسه القدرة العلمية للتخصص الذى يريد أن يدرسه وكذا القدرة المادية التى تمكنه من الالتحاق بالجامعة، وذلك تماشيا مع ما أعلنته هيئة اليونسكو فى تقاريرها بأن يكون التعليم العالى حقا مكتسبا لجميع الحاصلين على الثانوية العامة دون تفرقة بين جنس ولون وسن، والاقتراح أن يكون للجامعة رأى فى الطلاب الذين يلتحقون بها بديلا عما تم فى مصر عام 1936 عندما تم تطوير المرحلة الثانوية ( خمس سنوات) من شهادة الكفاءة (سنتين) وشهادة البكالوريا ( ثلاث سنوات) الى شهادة الثقافة العامة ( أربع سنوات) حيث يزود الطلاب بكل المعارف التى تؤهلهم للاندماج فى الحياة العامة وشهادة التوجيهية ( سنة واحدة) التى يتم إعداد كل من يحصل عليها للالتحاق بالجامعة، ولذلك ألحقت السنة التوجيهية بالجامعة تشرف على الدراسة بها وعلى امتحاناتها وبذلك أصبح للجامعة رأى ورؤيا لنوعية الطلاب الملتحقين بها وقد استمر هذا الوضع حتى عام 1947 وبعدها أعيد إلحاق السنة التوجيهية بوزارة المعارف ، وربما يفسر ذلك المستوى المتميز الذى كان عليه خريجو الجامعات فى النصف الأول من القرن العشرين، ومما لا شك فيه أن المخططين للتعليم فى ذلك الوقت ارتأوا وجوب وجود سنة تمهيدية تعد الطلاب الراغبين للالتحاق بالجامعة مراعين الظروف البيئية للمجتمع المصرى لعلمهم أن التعليم ابن بيئته، كما أنهم اعملوا عقولهم فيما أخذوه عن الغرب. لمزيد من مقالات د. أحمد دويدار بسيونى