يلجأ الأستاذ ناصر عراق إلى بناء يحقق أهداف روايته الفنية فيما يتصور؛ فالرواية تقوم على صوتين هما صوتا البطلين الرئيسيين شارل– وأيوب، إلى جانب الصوت الثالث، وهو صوت راوٍ محايد لكنه رغم علمه بكل شىء فإنه ينطوى على انحياز لوجهة النظر التى تتبناها الرواية، كى تؤسس بها رؤيتها الواقعية بوصفها رواية تاريخية. ولا بأس من التكرار عندما نؤكد أن الرواية واحدة من الروايات الوطنية التى تؤكد العنصر التنويرى الذى يتخلل الرواية ويتحول فى أحيان إلى عنصر تعليمى، وذلك فى سبيل أن يؤكد الروائى هدفه المضمر من الرواية كلها، فالروائى منحاز ابتداءً، ويكتب روايته دفاعا عن مستقبل وطنه المهدد، وانتصارا للدولة المدنية الديموقراطية الحديثة التى يرجو أن يكون عليها وطنه، ولذلك يبنى روايته بالطريقة التى يظنها أقرب الطرق لتوصيل وجهة نظره، مؤكدا أن الكتابة موقف، وأنها سلاح مهم فى معركة التحرر والتقدم والاستنارة. هكذا تتركب الرواية من ثلاثة أصوات: شارل وأيوب والراوى العليم بكل شىء. والبداية هى عام 1805 بعد خروج الحملة الفرنسية وعودة مصر إلى أحضان الدولة العثمانية مرة أخرى، ولذلك نسمع صوت أيوب وهو يحدثنا عن ليلة زفافه فى الثانى عشر من مايو 1805. وفى اليوم نفسه يحدثنا شارل الذى مرت عليه تسعة أعوام فى أرض المحروسة، والذى يسترجع ذكرى اقتحام الباستيل قبل ست عشرة سنة، تحديدا فى 14 يوليو 1789؛ حيث أصابت رصاصات جند لويس الرابع عشر حبيبته روز. وكلا الحديثين الموجزين لكل من شارل وأيوب بمثابة مقدمة لاستعادة التاريخ الذى يبدأ من يوليو 1798 إلى يوليو 1801، وهى السنوات التى استعمرت فيها الحملة الفرنسية أرض مصر. ويعنى ذلك أننا نعود بطريقة الفلاش باك إلى سنوات الحملة الفرنسية. وخلال عمليات التذكر، يظهر صوت الراوى ويصبح هو الصوت المسيطر على غيره من الأصوات. وحسب طبيعة تقنية الفلاش باك التى تقوم على ومضات الذاكرة، فإن الفصول التى تتوالى فى السنوات ما بين 1798 إلى 1805 هى لوحات قلمية قصيرة سريعة الإيقاع، ولذلك فصولها قصيرة كى تتناسب إيقاعا مع ومضات التذكر. ونعرف من الصوت الخاص بشارل كل ما يقع فى دائرته من معارفه وأصدقائه الفرنسيين، وعلى رأسهم حبيبته «روز» التى سقطت فى حماسهم المندفع لاقتحام سجن الباستيل الذى اعتبر رمزا لوحشية حكم لويس الرابع عشر واستبداده. وبالقدر نفسه نعرف الضباط الذين عرفهم شارل، خصوصا الرسام الكبير «دينون» الذى صحب نابليون بونابرت، خلال الحملة الفرنسية، كى يسجل أحداث الحملة ويرسم صور معالم الحضارة المصرية فى عصورها المختلفة، وذلك لكى تكون هذه الصور بعض أجزاء كتاب «وصف مصر» الذى كتبه العلماء الفرنسيون الذين أسس بهم نابليون المجمع العلمى المصرى، وكانوا وراء تأليف كتاب «وصف مصر». أما دائرة معارف أيوب فتشمل أصدقاءه المصريين، خاصة النساء اللائى دخل فى علاقات عابرة معهن، فيما عدا شقيقة شارل «فرانسوا» التى أحبها أيوب حبا ملك عليه وجدانه، وكاد أن يتقدم لخطبتها لولا زعران القاهرة الذين سلبوها حياتها، فماتت تاركة الحزن العميق لأيوب، ولأخيها الذى كان اغتيال شقيقته كارثة مضافة إلى فقدان حبيبته «روز» فى خضم أحداث الثورة الفرنسية. وبالطبع فإن الدائرة المصرية التى يقودنا إليها «أيوب» أوسع من الدائرة الفرنسية التى يقودنا إليها «شارل»؛ فالدائرة المصرية تشمل شخصية شلضم السقا، وهى شخصية تذكرنا حكايتها بحكاية البطل فى رواية «شباب امرأة» لأمين يوسف غراب التى أخرجتها السينما المصرية فيلما من بطولة تحية كاريوكا وشكرى سرحان. والجامع بين حكاية شلضم وبطل رواية أمين يوسف غراب هو تيمة الفتى الفحل وسيم الملامح الذى يتميز بقوة جسدية فائقة تلفت إليه انتباه امرأة أكبر منه سنا بكثير هى المعلمة شفاعات، وهذا ما حدث لشلضم الذى لفتت قوته البدنية غير العادية أشرف هانم زوجة إيواظ بك المملوكى، فقد أغرمت أشرف هانم بالسقا شلضم وانتهت علاقتها به إلى أن هربت معه، تاركة زوجها إيواظ بك نهبا للمرض والإحساس بالعار الذى انتهى به إلى الجنون. أما الشخصية الثانية والأهم فهى المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتى الذى يعد تاريخه مصدرا مهما من مصادر الرواية، وكان يعرف والد أيوب ويكلفه بنسخ بعض الكتب القديمة، ولذلك دعا أيوب إلى زيارته فى منزله متيحا لنا أن نعرف طريقته فى التأريخ، ونسمع بعض فقرات من تأريخه لسنوات الحملة الفرنسية، ومنه يتعلم أيوب كيف يكتب أهم الأحداث التى تمر به كل يوم، وأهم من ذلك يعرف منه عدم الثقة بمحمد على فى وعوده التى قدمها للمشايخ، أو تظاهره بمحبة الفقراء من المصريين. وإذا كان أيوب قد وقع فى غرام شقيقة شارل «فرانسوا» وفقدها بعد أن اغتالها الزعران، فالكارثة نفسها تكررت من قبل مع الخواجة شارل الذى سبق له أن فقد حبيبته روز برصاص جند لويس الرابع عشر. أما إذا جئنا إلى صوت الراوى، فسوف نلاحظ ما سبق أن أشرت إليه من أن الراوى لم يكن محايدا، وإنما تنسرب مقاطع تظهر عدم حياده من خلال السرد، ولذلك يتقمص الراوى شخصية عبد الرحمن الجبرتى، خصوصا وهو يقول لأيوب، بعد أن سأله عن محمد على الوالى الجديد الذى لا يعرف اللغة العربية، ولم يعش بين المصريين إلا أربعة أعوام فقط، فكيف سيحكمهم بالعدل؟ عندئذ ضحك الجبرتى وقال: «ومن أخبرك أنه سيحكمنا بالعدل، فالعدل غاية لا تدرك يا أيوب، أما بخصوص جهله بلغتنا العربية، فهذا أمر هين، إذ إنه يستعين بترجمان مثلما كان يفعل بونابرت ومعظم من كانوا قبله، ولا ننشغل بمسألة اللغة كثيرا؛ فالسلطان العثمانى نفسه لا يعرف العربية وهو الذى يحكم كل الشعوب التى تتحدث العربية، المهم أن يكون مسلما مثلنا». والواقع إن تركيز المؤرخ عبد الرحمن الجبرتى على رابطة الإسلام بين الحاكم والمحكوم أمر طبيعى، فى مقابل تركيز شارل على الرابطة الوطنية الحديثة التى تقوم على المصالح والأهداف المشتركة التى تجمع بين أبناء الوطن الواحد ذى المصالح الواحدة والتاريخ المشترك واللغة الرابطة. وليس هذا هو التضاد الوحيد الذى تنبنى عليه أحداث وشخصيات القص، فهناك، أولا، التضاد بين الشعب المصرى والمماليك الذين أذاقوه العذاب وويلات الظلم. وهناك، ثانيا، التضاد بين التخلف العسكرى للمماليك والعثمانيين مقابل التقدم العسكرى للفرنسيين الذين يعرفون استخدام الأسلحة الحديثة، فتستطيع كتيبة صغيرة منهم أن تهزم العثمانيين الذين كانوا أكثر عددا بما لا يقاس، ذلك لأن الفارق بين العثمانيين والفرنسيين كالفارق بين العصر القديم الغارق فى ظلمات العصور الوسطى وجهالتها من ناحية وعقلية العصر الحديث المسلحة بالعلم وأدواته الحديثة التى وازتها أفكار الاستنارة والدولة المدنية المتحضرة التى تخلصت من السلطة الدينية للكنيسة، من ناحية مقابلة. وفى موازاة التضاد، هناك الاستباق فى السرد الذى يهيئنا لأحداث لاحقة بنوع من الإرهاص، فيخبرنا عن فضيحة أشرف هانم وشلضم السقا فى صفحة 70 من الرواية، قبل أن تقع هذه الفضيحة بعدة فصول. وهناك، ثانيا، استباق الإرهاص بمقتل حسنات صفحة 137 قبل أن تقتل بفصول، وأخيرا مقتل أيوب فى صفحة 224 قبل أن تقع الواقعة فعلا، ويموت أيوب بأسلحة زبانية محمد على فى الفصل قبل الأخير. وكما هو متوقع، لا ينسى ناصر عراق الإشارة إلى أن الخيانة هى التى تئد كل محاولة مصرية للتحرر، ولذلك يسقط الماضى البعيد على الماضى الأبعد، فيرجع القضاء على عصبة أيوب إلى وجود خائن من بينها، كما لو كان يذكرنا بالخيانة التى هزمت طومان باى وساعدت العثمانيين على غزو مصر، وكما لو كان يذكرنا – فى الوقت نفسه- بالخيانة التى كانت سببا لاحقا فى هزيمة عرابى واحتلال الإنجليز لمصر سنة 1882. وأتصور أن تجاوب النص الحاضر والنصوص الغائبة، فى رواية ناصر عراق يضع خيانة دياب ضاضو فى سياق من تجاوب الحاضر النصى مع الغائب فى السياق الأوسع الذى تنتسب له رواية «الأزبكية» بوصفها رواية تاريخية، حيث تكمن العظة المتكررة للخيانة، وهى الهزيمة التى صاحبت القتل الجماعى لكل عصبة أيوب بسبب خيانة واحد منهم -هو دياب ضاضو- لم يتحمل التعذيب، فأخبر زبانية محمد علىّ عن زملائه وقادهم إلى مكان الاجتماع وأتاح لهم أن يقتلوا أصحابه جميعا، فغدروا به وقتلوه كما غدر هو بأصحابه. ويقودنا ذلك، أخيرا، إلى تجاوب المشابهة بين الزمن الروائى للأزبكية بدوالها التى تقع بين آخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر ومدلولاتها التى تشير إلى أواخر القرن العشرين ومطالع القرن الحادى والعشرين، حيث يستدير الحاضر إلى الماضى عائدا إليه، محاولا تكراره، كما لو كان صدى له، فتصطدم الهوية الوطنية لمصر بهويتها الدينية. وتذكرنا عصبة أيوب بعصبة المحدثين فى هذا الزمان، ولكن مع تذبذب فى المصير تحسمه الدولة المدنية الحديثة هذه المرة، فالتاريخ لا يكرر نفسه حرفيا. لمزيد من مقالات جابر عصفور