«الحمد لله يا خواجة شارل.. أخيرا رفرف العلم العثمانى مرة أخرى فوق سور القاهرة». هكذا هتف أيوب السبع متباهيا، وهو يتابع بعينيه السوداوين مداعبات الهواء للبيرق العثمانى. كان منتشيا بفخر استثنائى... وزع الخواجة شارل نظراته بين أيوب والبيرق المرفرف، وقال متحسرا: «لا بأس.. لكننى كنت أتمنى أن أرى علما مصريا يرفرف فوق سور القاهرة.. لا علما عثمانيا!». وقد قلبت هذه العبارة حياة أيوب السبع، رأسا على عقب، وكانت بداية انقلاب وعى هذا الشاب الأزهرى النابه الذى كان عليه أن يستبدل بمفهوم الدولة الدينية مفهوم الدولة المدنية الحديثة. ولم يكن الأمر على نحو حاد قاطع، وإنما كان نتيجة عراك ذهنى انتهى به إلى الانقطاع عن تقبل الدولة العثمانية والنظر إليها بوصفها استعمارا أجنبيا لبلده، وبعد أن كان يتقبل الوجود العثمانى فى بلده بوصفه وجودا طبيعيا على أساس من وحدة الدين الإسلامى، إذا به يرفض ما كان يتقبله من قبل، ويبحث عن نموذج لدولة أخرى مدركا أن الدين أمر خاص بين المرء وربه، فلا يجب أن يستثمره أحد لصالحه، كما كان يفعل الرهبان والقساوسة فى أوروبا، حين كان الواحد منهم يتعامل مع البسطاء باعتباره المتحدث الرسمى باسم السماء، كذبا وتدليسا. وقد أدرك أيوب أيضا أن البشر سواسية لا يفرق بينهم دين أو جنس أو لون، فلا يصح أن يكون هناك عبيد وجوارٍ، ولا يجوز أن يتلقى الأقباط واليهود معاملة سيئة فى مصر من قبل بعض المسلمين المتعصبين. ويستمع بوعى كامل متقبلا ما يقوله شارل من أن زمن الولايات والممالك والأبعديات والإقطاعيات والرهبان والأحبار قد انتهى، وأن الشعوب دخلت عصر الجمهوريات، أى عصر الدولة الوطنية ذات الحدود المعروفة، عصر السياسيين لا عصر رجال الدين. هكذا يتغير وعى أيوب السبع ويستبدل بوعيه الدينى السياسى وعيه السياسى المدنى والوطنى، فيؤكد لعصبته التى شكلها للمقاومة: «كفانا غرباء يأتون من المشرق والمغرب، يحكموننا وينهبوننا ويذلون شعبنا باسم الدين، ونحن نرضخ لهم لأنهم مسلمون مثلنا». ويتسع وعيه لمعرفة أن لكل زمن قوانينه وأفكاره التى تستهدف مصالح الناس فى المقام الأول حتى تصبح حياتهم أكثر يسرا وعدلا وجمالا، ويترتب على ذلك وعى جديد بأن العصر الحالى الذى ازدادت فيه المعارف والعلوم والاختراعات بصورة مذهلة على أيدى عباقرة أفاضل من فرنسا وإنجلترا وغيرهما، وما ترتب على ذلك من تطورات فى الأفكار والقوانين والفنون، كل ذلك من أجل خدمة الناس وليس فى أوروبا فقط، بل فى كل بقعة من العالم. ولذلك تنزل كلمات شارل فى أذنيه كأنها مفاتيح جديدة لوعى جديد، وعى مؤداه أننا لسنا فى حاجة إلى وصاية أحد باسم الدين، وأن البشر قادرون على اختيار مجموعة منهم تدير شئون الدولة بالقانون والعدل دون الانصياع إلى من يخدعهم باسم السماء. وعندما يتساءل مع شارل عن من الذى يختار هذه المجموعة، يجيبه شارل قائلا: «يوجد مجلس اسمه المجلس الوطنى.. يضم مجموعة من الرجال الأكفاء الذين يختارهم الشعب عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة، هؤلاء هم الذين يضعون القوانين ويختارون الحكومة، وإذا أخفقوا يتم استبدال غيرهم بهم من خلال انتخابات جديدة كل فترة وهكذا». ويؤمن أيوب نتيجة حواراته مع شارل أن: «الجمهورية هى أفضل نظام توصل إليه الإنسان حتى الآن». هكذا تشرب أيوب النساخ أفكار شارل عن الدولة المدنية وعن أفكار التنوير التى تدين لولتير وديدرو وجان جاك روسو وغيرهم من فلاسفة التنوير الفرنسى التى بدأت تتسلل مع اطلاع الشباب الواعى المصرى على أفكار الاستنارة الفرنسية. ولا غرابة فى ذلك فقد اشترك شارل الفرنسى فى أحداث الثورة الفرنسية سنة 1789 واشترك فى اقتحام الباستيل، حيث ماتت حبيبته روز، وظل كارها للنزعة الاستعمارية التى اندفع بغوايتها نابليون بونابرت لغزو مصر، ولم يتوقف شارل عند مجرد الاعتراض، فقد ذهب إلى نابليون وأخبره شخصيا باعتراضه, على أساس أن كليهما اشترك فى الثورة على الملكية، وما كان يليق بنابليون أن يتنكر لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، ويؤمن بأفكار الفيلسوف الألمانى ليبنتز فى مذكرته عن غزو مصر التى قدمها لملك فرنسا لويس الرابع عشر، حاملة الأفكار التى ثار عليها أبناء فرنسا الأحرار، مؤكدين الحرية للفرد والأوطان والإخاء بين الناس جميعا والمساواة بينهم فى الحقوق والواجبات. ولاشك أن أفكار الاستنارة الفرنسية، جنبا إلى جنب أفكار الثورة الفرنسية هى التى أسهمت فى تغيير وعى أيوب والانتقال به من حال إلى حال والدخول فى مرحلة جديدة من الوعى، جعلت منه بشيرا للاستنارة بين عصبته الوطنية التى تتكون منه قائدا ومن دياب ضاضو، وعلى أبو حمص، وشلضم السقا، وخليل المنوفى أعضاء. وكان ذلك هو الطريق الذى عرف فيه أيوب السبع الفارق بين النور المعرفى والظلام المقترن بالتعصب؛ فالظلام يخفى الأسرار وينتج الخرافات ويقزم الخيال ويشيع الخوف فى النفوس, أما النور فيمحو العتمة ويضىء القلب ويغرى بالعمل والنشاط. ومنذ لقائه بصديقه الفرنسى يتحول شعاره فى الحياة إلى: تأمل.. تسعد. وتعلم أن أحوال العالم الصاعد تستحق عالما واعدا تبنيه بإرادتك الحرة. ويذهب بوعيه الجديد إلى العصبة التى كونها مع أصحابه الأقربين لمقاومة المحتل الفرنسى لكى يقول لهم: «إن مصر يا إخوانى نسكنها نحن المصريين, ومعظمنا مسلمون، وكلنا يتحدث اللغة العربية، حتى الأقباط واليهود الذين يعيشون بيننا يتحدثون لغتنا، ويفصلنا عن أوروبا بحر عظيم، ويحجبنا عن آسيا بحر كبير آخر، وكل من هو خارج هذه الحدود لا يتحدث لغتنا، وبالتالى لا يحق له أن يحكمنا أو يتحكم فينا... «. وعندما يقاطعه دياب ضاضو صائحا: «لكن المسلمين فى بلاد الشام يتحدثون العربية، وهل نسيت سليمان الحلبى الذى قتل المجرم كليبر؟.. إنه من حلب وكان يتعلم فى الأزهر، ويقرأ القرآن فى المآتم والمناسبات والليالى الدينية». فيجيبه أيوب: «معك حق، لكن بلاد الشام يجب أن تكون دولة لها أرض وحدود معروفة وحاكمها ومساعدوه من أهلها». «أما مصر الدولة والأرض... فيجب أن تكون لها حدود معينة وعسكر يحمى هذه الحدود لا يدخلها أحد دون إذن، وأن يتولى شئون مصر حاكم مصرى معروف بالنزاهة والفطنة، يختاره الأهالى بأنفسهم، كذلك معاونوه ومساعدوه مصريون ثقات، أكفاء، وإذا أخفق هذا الحاكم فى تحقيق العدل والأمن أزاحه الشعب من دار الرئاسة مثلما يحدث فى فرنسا». ويمضى الحوار بين أيوب والعصبة, التى تتحول إلى عصبة وطنية، وتنطلق أسئلتهم تبحث عن أفق جديد لوعى مختلف، مثيرين قضية الدين التى يتحجج بها دائما دعاة الدولة الدينية، فيجيب عليهم أيوب محتدا: «الدين عند الله... وليس عندنا نحن، فما نحن سوى عباد الرحمن لا نملك سلطة على أحد، فلنوسع صدورنا لاستيعاب الآخرين، ولا تنسوا قول العزيز الحكيم: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة». «وأنتم كلكم تعلمون كيف أنقذت حياتى أسرة مسيحية قبطية فى حارة الروم فى ثورة القاهرة الأولى». وينتقل الوعى الوطنى الحديث والتنويرى من أيوب إلى بقية عصبته التى آمنت - تدريجيا، ونتيجة الأفكار الجديدة التى تعلمها- بأهمية الدولة الوطنية الحديثة، فيقرون اقتراح اغتيال محمد على باشا الوالى العثمانى الجديد لكى يكون حكم مصر لأبنائها المصريين، ولكن واحدا منهم دياب ضاضو- يقع فى أسر جنود محمد على، ومع التعذيب الشديد، يخبر زبانية محمد على بحكاية العصبة التى ينتمى إليها، والتى لم يستطع الفرنسيون الكشف عن أمرها طوال الحملة الفرنسية. ويعترف بأسماء زملائه فى العصبة واحدا واحدا، فيخون رفاقه الذين يتربص بهم جنود محمد على ويغتالونهم جميعا. فتنتهى ملحمة مصرية فى النضال الوطنى كتبها وتخيلها ناصر عراق. وكما قلت من قبل إن رواية «الأزبكية» تصوغ هذه الملحمة بلغة سهلة يسيرة؛ مما يجعلها قريبة من عقول الشباب, الذى أرجو أن يقرأ أكبر عدد منه هذه الرواية، فهى تعلمهم معنى الوطنية الحديثة، ومعنى الدولة المدنية الديموقراطية التى تنبنى على شعارات الثورة الفرنسية الثلاثة، تلك الشعارات التى خانها نابليون بونابرت عندما استجاب لفلاسفة استعماريين, من أمثال ليبنتز، حرضوا أمثاله على غزو استعمارى لنهب ثروات الأمم التى لم تمتلك بعد حضارة الغرب: أقصد الغرب الاستعمارى الذى لم يكن يحترم حقوق الشعوب المستعمرة ولم يكن قد تأثر بالنزعات الوطنية التى انتقلت منه إلى المستعمرات التى كان يحكمها، فانقلبت هذه المستعمرات عليه وتحررت منه بالمبادئ نفسها التى حررته قبلها من الاستعباد ومن الحكم الدينى على السواء، فتأسس الخطاب النقيض للاستعمار، أو ما يوصف هذه الأيام فى النقد المعاصر- بخطاب ما بعد الاستعمار. لمزيد من مقالات جابر عصفور