من يتمعن التاريخ الإفريقى فسيدرك أن هناك كثيرا من الخلفيات الثقافية والحضارية يجب أن نعرفها، ويظهر بعضها بوضوح فى هذا الكتاب المهم. وهو «الأصول الزنجية للحضارة المصرية» (Nations negres et calture)، للمفكر السنغالى «شيخ أنتاديوب»، والذى ترجمه «حليم طوسون» منذ وقت مبكر، واتخذ من موضوعه لأطروحته للدكتوراه فى «جامعة باريس»، التى نوقشت وأجيزت عام 1955 وسط حماس إفريقى. والكتاب مُقسّم لسبعة فصول، تناقش القضايا المهمة، أهمها رفض الكتاب الدراسات الغربية «للثقافة الإفريقية السوداء»، بسبب تحيزها للرجل الأبيض ونظرياته، وما وراءها من مقولات مثل أن الرجل الأسود لم يكن مسئولا يوما عن صنع أى شيء، ومؤلفات استعمارية كثيرة تكرس لذلك، فكان واجبا على الأفارقة دراسة تاريخهم وحضاراتهم بأنفسهم، بعيدا عن المقولات الغربية حتى يتم الخلاص نهائيا من كافة أشكال الرعاية الأبوية المزيفة، وتفنيد الأكاذيب الاستعمارية التى سادت طويلا عن عدم إسهام السود فى الحضارة الإنسانية بالرغم من كونهم الآباء الحقيقيين لها. ومؤلف الكتاب من مفكرى القارة السمراء الرواد، وُلد عام 1923، وأُطلق عليه «فرعون الثقافة الأفريقية»، لاهتمامه البالغ ب «الحضارة المصرية القديمة»، حيث يعتبرها رابطا أصيلاً بين العرب والأفارقة، ويثبت فى كتابه هذا «الأصول الزنجية للحضارة المصرية القديمة»، وقد أثار جدلا واسعاً إلى الآن. وقد تلقى «شيخ أنتاديوب» تعليمه فى السنغال إلى البكالوريوس، ثم انتقل لفرنسا لإتمام دراسته الجامعية، وما بعدها، وتخصص فى الفيزياء، ثم تحول عنها لدراسة التاريخ الأفريقي، ومعاناة الأفارقة ويلات الاستعمار، وأقام معملا كيميائيا فى «جامعة داكار» لتحليل «الآثار المصرية والأفريقية»، وكان مولعا باللغة والتاريخ والسياسة، وشارك فى النضال ضد الاستعمار فى بلده. واعتمد «ديوب» منهج «المقارنة التاريخية بين افريقيا وأوروبا»، وتأكيد أن الحضارة المصرية زنجية بالأساس، بُغية إعادة الاعتبار للثقافة والحضارة والتاريخ الأفريقى، فى مواجهة التشويه الغربى المتعمد، وذهب لأبعد من ذلك بإثبات تفوق الحضارة الأفريقية على الحضارة الأوروبية، وكان يؤمن بأن الاستقلال السياسى لا معنى له بدون الاستقلال الحضارى والثقافي. وكثف دراسته للماضى الأفريقى العظيم قبل مجيء الرجل الأبيض، وظل مؤمنا لآخر حياته بخصوصية الثقافة، ورفض العولمة، وظلت قضيته الكبرى، ومحور هذا الكتاب، إثبات أن الحضارة المصرية القديمة حضارة زنجية، وسعى لإثبات ذلك عبر شهادة المؤرخين، وفى مقدمتهم «هيرودوت» الذى قال عن مصر انها «أرض السود»، والرحالة الفرنسى «فولنى» الذى قال «ان أسلاف المصريين كانوا من السود»، وأضاف «إننا علمنا العالم الأبجدية الأولى». وأثبت أن المصريين لم يكونوا من الجنس الأبيض، مستشهدا بأن الإله «أوزوريس» باللون الأسود، وهو رمز الخير والأخلاق، واستب إله الشر، وقاتل أخيه، أبيض، وشعره أحمر، وكان المصريون يرون «الرجل الأبيض» عاجزا عن الحياة، ومريضا يجب ذبحه. ويرى الشيخ «أنتاديوب» بأدلة أثرية، أن ملامح المصريين زنجية من خلال النقوش الجدارية، والمومياوات، التى تظهر بوضوح فى تفاصيل التاريخ المصرى القديم، وذهب إلى أن مصر فقدت استقلالها كدولة أم لإفريقيا مع غزو الفرس لها فى القرن الخامس قبل الميلاد، وشرح التشابه بين «الهيروغليفية» وبعض اللغات الأفريقية وأشهرها لغة «الولوف» فى غرب افريقيا. وتناول الكتاب أيضا النظام الاجتماعى فى مصر وأفريقيا، حيث التشابه التام فى تقسيم الطبقات، والعادات والتقاليد، والنظر إلى الحاكم باعتباره الكائن الأعظم، فمن غير الطبيعى أن يكون ضعيفا، وكانت هذه قيمة عليا حاكمة بين مصر وأفريقيا، إضافة إلى النظام الأُمومى فى مصر وأفريقيا، وشرح بالتفصيل ان المجتمعات الأمومية كانت أكثر تحضرا من المجتمعات الأبوية الأوروبية والآسيوية، وتحمل سمات أخلاقية من الطبيعة الزراعية التى كانت تتمتع بها مصر وأفريقيا على السواء، ولم يكن المجتمعان المصرى والافريقى يعرفان حياة الرعاة فى السلب والنهب والإيذاء المرتبطة بالمجتمعات الأبوية. وتعجب «ديوب» من زعم الأوروبيين أن القوقازيين هم بناة الحضارة القديمة، وتساءل: لماذا لم يتم بناء هذه الحضارات المنسوبة إليهم فى بلادهم؟؟«، ورأى أن كل ذلك يهدف إلى حرمان «الزنجى الأفريقى» من حقه فى صناعة حضارة وثقافة هدمها الرجل الأبيض حين وطأت أقدامه القارة السوداء.