في دورته الثالثة والثلاثين، يقترب مهرجان القاهرة السينمائي الدولي من الطابع الذي يجب أن يميزه، ولا يستطيع أي مهرجان دولي آخر أن يدخل في منافسة معه، وذلك بلم طرفي القارة الإفريقية، ووضعها في مركز حوار حضاري بين المشرق والمغرب. ففي هذه الدورة، يكرم المهرجان رائدًا من الرواد الأوائل للسينما الجزائرية، هو: «أحمد راشدي»، كما يدعو إلي عقد مائدة مستديرة لمناقشة قضايا السينما الأفريقية. ولا توجد قارة من قارات عالمنا لعبت دورًا رئيسيا في بناء الحضارة الإنسانية مثل قارتنا السوداء. وهو ما أكدته الكشوف الأثرية الحديثة، خاصة العثور علي شبه مدينة تحت أرضيها، في المثلث الذي يربط توشكي بشرق العوينات بكوم إمبو. وقد حدث ذلك أثناء نقل معبد «أبي سنبل»، وعلي التحديد في مارس 1968، عندما هبطت المعاول علي الصخور الصلبة لتحديد الموقع الذي يتخذه المعبد، فإذا بسلالم حجرية تؤدي إلي قاعة عريضة، بل أفران وأطباق ورحايات وكراسيه تفوق في دقة صنعها أثاث الأسرة الثامنة عشر، وخاصة مقعد توت عنخ آمون وبتحليل الهياكل العظمية، سجل الكربون المشع عمرها بخمسة عشر ألف عام، وهو كشف مذهل إذ تجمع كتب التاريخ في شتي أنحاء العالم أن الحضارة المصرية القديمة ترجع إلي 350 ألف عام قبل الميلاد. وأسدل الكشف الستار علي أسطورة لوس وعلي أسطورة إنسان نياندردال، وقد كتب الزميل عزت السعدني في أهرام 7 مارس 1968 وصفًا دقيقًا لذلك الحدث التاريخي الفريد في نوعه. ومن قبل، وصل المفكر الإفريقي شيخ أنتا ديوب إلي الرابطة الحضارية التي تضم أطراف القارة السوداء، وترجعها إلي فكر واحد، وإلي فنون متقاربة. وإذا كان الباحثون والمؤرخون الأوروبيون قد قابلوا أبحاث المفكر السنغالي بالصمت، وذلك أثناء ندوة كبيرة أقامها اليونسكو، فها هو كشف توشكي يرد عليهم، ويعيد تقييم مجموعة الباحثين الأفارقة تلامذة شخنا الجليل، والذين يواصلون رسالته من خلال مجلة الحضور الأفريقي Présence Africaine. حضارة جديدة ونحن الآن علي أعتاب حضارة جديدة، حضارة تتجاوز حضارة النص المكتوب التي تبدأ منذ اختراع المطبعة بفضل جوتبرج في القرن الرابع عشر، وتنقلنا إلي مطبعة جديدة هي الوسائط المتعددة. وينبغي التركيز، وبشدة علي هذه النقطة. فقبل اختراع المطبعة كان من يريد شراء كتاب، يلجأ إلي الناسخ، والنسخ تكاليفه باهظة، ومن لديه القدرة علي الحصول علي مخطوط سوي الصفوة والأغنياء؟من هنا «محدودية» انتشار الفكر. أما مع اختراع المطبعة، فالكتاب أصبح يطبع بالآلاف، وانتقلت الجماعات الإنسانية من مرحلة النقل الشفهي للتراث والمكتب العلمي للأسلاف، إلي مرحلة «الفردية»، القارئ مع كتابه يتأمل ويفكر ويضيف، ثم المجتمع ككل أصبح «ذوات مترابطة»، علي حد تعبير جان جاك روسو، والترجمة العلمية لهذا التحول هي وضع: «الدستور»، وتحديد حقوق الفرد وواجباته وحدود الدولة وواجباتها. لكن: من يستطيع قراءة المطبوع؟ بديهي: من يجيد القراءة. وحتي اختراع السينما، كانت شرائح الصفوة المثقفة من أبناء البرجوازية الصاعدة هي قاعدة القراءة لكن مع اختراع السينما أصبح الفلاح الآن مماثلاً للمثقف الحضري في استقبال موضوع أي فيلم. سيطرة استعمارية ولأن شرق أفريقيا ظل، حتي الستينات، خاضعًا لسيطرة الاستعمار البريطاني (ووريثه الأمريكي بعد ذلك) ولأن غرب أفريقيا كان يسمي في فرنسا بفرنسا وراء البحر، فقد وضعت القوي الاستعمارية استراتيجية أخطر من أي استراتيجية عسكرية، ألا وهي السيطرة علي الإنتاج السينمائي. بلد واحد ظل محتفظًا باستقلاليته في الإنتاج السينمائي، هو: «مصر»، فرغم الاحتلال الإنجليزي، كانت أنظار مثقفينا متجهة إلي الغرب، خاصة فرنسا. والأخوة لوميير مخترعا السينماتوجراف، كانت أول شرائطهم هي التي التقطها مصورهم برونو، في الغورية، وميناهاوس، وموكب الكسوة الشريفة إلخ. وعند إرساء صناعة السينما في مصر، أصبح الفيلم المصري هو المتحدث باسم الإنسان العربي- الأفريقي. سوء توزيع وحتي نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تكن هناك صناعة أفلام في القارة السوداء إلي جانب مصر، إلا في تونس، وفي المغرب. ففي عام 1924، أنتجت تونس أول أفلامها، وهو: «عين الغزال»، من إخراج سمامانا شيكلي، كما شيدت أول استديوهاتها، بينما لم تولد السينما في المغرب إلا مع إنشاء استديو الرباط في 1946، ومع ذلك فالرغبة في منافسة الفيلم المصري، الاعتماد في التمويل علي البنك الفرنسي B.N.e.I أوصد طريق التوزيع أمام الإنتاج المغربي. ولم يسأل القائمون علي الإنتاج: لماذا؟! ولم يفطنوا إلي أن الحوار في أفلام تارة بالفرنسية وتارة باللهجة العامية هو عقبة في سبيل الإقبال علي ذلك الإنتاج. المسخ السينمائي ثم هناك ما هو أخطر: لم يصل سينمائي إلي الوعي بأن النموذج الهوليوودي (ولا أقول الأمريكي) يصبح- لو طبق في إنتاج قومي- نوعًا من «المسخ» ويثير ضحك المشاهد. وحتي عام 1955 لم تعرف القارة السوداء إنتاجًا سينمائيا، فيما عدا مصر، وبالإضافة إلي عدد محدود في البلاد الناطقة بالعربية. أما نقطة البداية في سينما أفريقية قومية، فترجع إلي الاتنولوجي الأفريقي، مؤسس مجلة: «البحر الأبيض»، المفكر بولين سومافمييرا، وبالاشتراك مع زميله ماما دور سام، أخرج أول إنتاج سنغالي، ألا وهو فيلم «أفريقيا علي نهر السين»، وواضح من العنوان أنه يخاطب من تهدهدهم أحلام العمل في فرنسا، فلا يجدون سوي غسل الصحون في المطاعم وكنس الشوارع. فيلم وثائقي، إلا أنه فتح الطريق أمام روائي سنغالي، ثم تتابع ظهور المخرجين، تراوري، ثم جبريل ديوب، ثم أول مخرجة في السنغال: «صوفي فناي». وكرد فعل لهذا التيار، بدأت دول أفريقيا الأخري تحذو حذو السنغاليين: مصطفي الحسن وعمرو جاندا في النيجر، ثم مخرجة، هي: رحماتوكيتا Rahmataa Keita. حلول إنتاجية ليس هدفي هو سرد تاريخ السينما الأفريقية. بل النفاذ إلي الحلول الإنتاجية وتخطي ثنائية اللغة، وإنتاج أفلام هي سينما خالصة، تشكيلاً وإيقاعًا وسردًا، ومع ذلك هي ثقافة جماهيرية. حتي هذه اللحظة، ما زالت طرق التوزيع موصدة أمام سينمائيي أفريقيا السوداء، وإن كان بعض الأفلام، خاصة في الجزائر والمغرب، قد لقي نجاحًا في الخارج، خاصة في أوروبا، إلا أن الاحتكارات الهوليوودية، تعلن حالة الحصار. إنها تبني عمائر سينمائية، المعروفة باسم Multiplex، وتشتري 49% من أسهم شركات الإنتاج الأوروبية، خاصة جومون وباتيه أكبر شركتين في فرنسا. ما الحل؟ لا حل سوي إرساء كيان جديد، هو: اتحاد السينمات القومية» وأثناء انعقاد مهرجان قرطاج عام 1976، وضعنا أسس اتحاد السينمائيين الأفارقة، Fepaci، ولم يبق منه سوي مهرجان هزيل في «واجادوجو». الواقعية الجديدة استوعب تمامًا درس مخرجي الواقعية الجديدة في إيطاليا، بمعني أن الفيلم الصادق لا يحتاج لديكورات الاستديو الباهظة ولا للإضاءة التي تزيف الحس بالمكان، فا الشارع هو خروج الفرد من ذاتيته ليواجه مجتمعه، وكذلك العمل، وكذلك الجيران وكذلك من نكره ومن نحب. ولا أدري إن كان مخرجنا هذا، رائد الواقعية الجديدة الأفريقية، الراحل: «عثمان سمبين»، قد تأثر بفيلم دي سيكا الشهير «سارقو الدراجات» (وليس سارقاً فالعنوان هو Ladri بالجمع) بدلاً من دراجة ريتس في فيلم دي سيكا، تجدنا أمام عربة يجرها حمار، والأرزاق علي الله، كما تقول في لغتنا الدارجة، كيف يعيش هذا السنغالي البسيط يومه؟ كيف يواصل الحياة؟ سؤال هو المحور الدرامي لأول أفلام سمبين: «بوردم سيرات». فيلم قصير، لكنه كان معمل تجارب لروائي ينتقل إلي الإخراج، وله رؤيته لمجتمعه، وهو علي وعي بأهم مشكلة تواجه أي إنتاج بصري- سمعي، هي مشكلة ازدواجية الثقافة، نتيجة لازدواجية اللغة. فهناك لغة رصينة للمثقفين، ولغة تتفرع إلي لهجات إقليمية، هي اللغة الدارجة، لغة الجماهير الشعبية. والسينما إن لم تكن فنًا شعبيًا، فمكانها السينماتيك والعروض الخاصة ونوادي السينما، وأبدًا لن تصل إلي الجمهور العريض، ولهذا قرر عثمان سمبين أن يكون أول أفلامه الروائية: «سوداء فلان» «La Noine de.....» ناطقًا بلهجة الألوف، لغة الشعب في الشمال، كما قرر أن يكون فيلمه الذي تدور أحداثه في الجنوب، وهو فيلم: إيميتاي Eصmitail بلهجة الديولا، وبين الفيلمين فيلم هو أكثر أفلامه نضجًا، هو: الحوالة» وقد فوجئ بفوزه بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي عام 1968 إن لم تخني الذاكرة.