من العجب أن يولي المصريون وجوههم شطر الشمال باحثين عمن يمنحهم الاعتراف, أو حتي علي أبسط التقديرات عدم الإعتراض علي وجودهم في هذا العالم. بينما هناك من يفني حياته, بحثا عن إثبات تفوقهم علي ما سواهم معتبرهم مرجعية تاريخية له. جاعلا منهم مصدر الفخر بالنسبة للقارة بأكملها, لتصبح مصر بحضارتها سيدا علي الجميع. و في مقدمة من تزين التاريخ بفكرهم الرامي إلي وضع مكانة أم الدنيا في المقدمة, بفضلها علي ما سواها من حضارات, نجد الشيخ' أنتاجوب' الذي كرس حياته لإثبات تلك الصورة معتبرا الحضارة الفرعونية مصدرا لإلهام الأوربيين في لحظاتهم الجنينية. ولد الشيخ' أنتاجوب' عام1923 في' ديوربل' بالسنغال. حيث نشأ في منطقة اشتهرت بكثرة العلماء المسلمين, والاهتمام بالمعرفة التاريخية, ودراسة التاريخ. وحفظ القرأن, وتعمق في دراسته, ودرس الكثير عن العالم العربي والاسلامي حتي لقب ب' فرعون المعرفة'. وبعد المرحلة الثانوية انتقل إلي فرنسا لدراسة الفيزياء في جامعة السوربون. لكنه شغف بدراسة التاريخ باحثا عن دور فرنسا في إفريقيا فدرس العلوم الاجتماعية. وقد كانت باريس في تلك المرحلة مركزا مهما لمناهضة الاستعمار, حيث نمت فيها تيارات مثل الزنوجة التي تزعمها كل من الشاعر إيمي سيزير وسنغور. وفي تلك البيئة راح أنتاجوب ينشط بالمزيد من الخبرات التي أسهمت في تشكيل فكره ورؤاه الرافضة للمركزية الأوربية التي تري أن العلوم والثقافة الانسانية, إنما هي نتاج للعقل الأوربي وحده. وفي مواجهة مزاعم تفوق الرجل الأبيض الأوربي علي غيره, اهتم أنتاجوب بتفنيد تلك المزاعم التي كانت تهدف لترسيخ نظرة الدونية لأفريقيا. ففي أواسط الخمسينيات تقدم بأطروحة لنيل درجة الدكتوراة, وكانت بعنوان' الأمم الزنجية والثقافة' إلي السوربون. لكنها رفضت لغرابة تلك الفكرة وتناقضها مع أفكار الغرب العنصرية. وفي1960 عاد إلي السنغال وأنشأ معملا للعلوم في داكار. وقام بالتدريس في' جامعة الآداب والعلوم الانسانية منذ عام1981 وحتي1986 حتي تحول اسم الجامعة إلي جامعة' الشيخ أنتاديوب' في عام1987 تكريما لإسم الشيخ. لقد انطلق الشيخ أنتاجوب بثورة فكرية قامت علي ثوابت كان أهمها الاستقلال السياسي, والثقافي والحضاري عن الغرب, وكذلك مواجهة التوظيف السياسي للفكر. حيث رأي أن الفكر علي مر تاريخه تم توظيفه بشكل غير محايد لخدمة أهداف الغرب الاستعمارية. فضلا عن الخصوصية الحضارية, فرفض الرجل ذوبان الشخصية الإفريقية في نظيرتها الأوربية. ثم خلص بأفكاره إلي نتائج كانت في مقدمتها اعتبار الحضارة المصرية بمثابة المرجعية التاريخية لقارة إفريقيا. إذ استند في ذلك علي عدد من القرائن التي تقارب فيها التاريخ الإفريقي مع التاريخ المصري إلي الحد الذي اعتبر عنده الحضارة المصرية القديمة ذات أصول زنجية, مستندا في ذلك علي عدد من الأدلة التاريخية واللغوية... إلخ. ليصل إلي علاقة عضوية بين الفرعونية وقارة إفريقيا. ولما رأي الرجل أن لإفريقيا فضلا علي الحضارة الغربية بداية باليونانية كما يثبت تاريخهم ذاته, بجانب بتلك العلاقة العضوية الأزلية, فقد انتهي الرجل إلي تفوق وسمو الحضارة المصرية الإفريقية علي نظيرتها الأوربية, وبخاصة فيما يتعلق بالتنظيم السياسي, ودور المرأة, والبعد الديني. وأمام تلك الصفحة الزاهرة من تاريخ الإنسانية, في شقها الإفريقي, ما علي المصريين سوي التأسي والاقتداء بتلك الروح التي يقدمها لنا' فرعون المعرفة' تجاه بلد غير موطنه, فما بالهم وقد نبتت جذورهم بين أحضان أم الدنيا.