صورة عالم الدين المتمثل فى شخصية الشيخ مبروك بفيلم «الزوجة الثانية» الذى استخدم النص الدينى «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولى الأمر منكم» لإجبار فلاح على طلاق زوجته لكى يتزوجها العمدة، جسدت فى الماضى القريب توظيف الدين لمصلحة اصحاب السلطة والنفوذ، وكانت ابلغ تعبير عن تراجع تأثير عالم الدين وخطابه، فنفر منه شباب الأمس وبحثوا عن نماذج أخرى وظفت الدين بشكل آخرت وابتعدت عن نبعه الصافى. واليوم لا تزال هذه الصورة النمطية التى حولت الفقيه الى «فقى» تؤكد ضعف هذا التأثير فى المجتمع، فلجأ بعض الشباب إلى الشيخ «جوجل» للاجابة عن استفساراتهم الدينية عبر الإنترنت. وبين الشيخ «مبروك» والشيخ «جوجل» مساحات من فوضى الخطاب الدينى زادت الفضائيات من حجمها فاتسع الخرق على الراتق! عبارة أخرى نعيش اليوم نوعا من الفوضى المركبة فى الخطاب الدينى ، نلمسها فى مفردات الخطاب المطروحة على الناس من ناحية، وفى أسلوب إدارته ومحاولات تجديده من ناحية اخرى. والمشكلة تكمن بشكل اساسى فى كثرة المتحدثين باسم الإسلام وعدم أهلية غالبيتهم لهذه المهمة. وقد نتج ذلك عن ضعف المؤسسة الدينية الرسمية، وتراجع تأثير علمائها وجمود أساليبهم الدعوية، فظهرت بدائل أخرى للخطاب الدينى لسد الفراغ، قد تكون هذه البدائل اقل جودة ولكنها أعلى صوتا وأكثر وصولا للناس وقدرة على دغدغة مشاعرهم، فراج خطابات عديدة وسط أمية دينية متفشية، و مجتمع انهارت قواه، وفقه بداوة يريد ان يتصدر المشهد. الواقع على الساحة الإسلامية يقول إننا لسنا بصدد خطاب واحد ليتم تجديده ، وإنما هناك خطابات متعددة ومتباينة، فمن حيث المضمون يوجد الخطاب الدينى الوسطى (المعتدل) والسلفى، والمحافظ. ومن حيث المصدر هناك خطاب للمؤسسات الدينية الرسمية وخطابات تنتجها مجموعات دينية خارج إطار تلك المؤسسات كالخطاب السلفى الجهادى والخطاب الدينى المتحرر الذى يتماهى مع القيم الغربية. لسنا ضد التنوع بل إن تعدد المدارس الفقهية والفكرية كان دائما مصدر ثراء فى الحضارة الإسلامية، ولكن فى عصر التراجع الحضارى تحول الأمر الى نوع من الفوضى والتشرذم ، تربك المتلقى فى الداخل والخارج. فنجد على المستوى المجتمعى خلطا فى المفاهيم بين ما هو سياسى وبين ما هو دينى، وبين ما هو دينى وما هو عام، وبين الفتوى والرأى، وبين نصوص الدينية المقدسة والاجتهادات البشرية، كل هذا من شأنه أن يوجد حالة من الالتباس تسهم فى تعميق هذه الفوضى فى المجتمع. يواكب ذلك على المستوى الإعلامى فوضى فى الفتاوى ناتجة عن تصدر غير المتخصصين للإفتاء عبر الشاشات، ولم نجد أحدا منهم يقول لا اعلم فى حين تعلمنا دروس الفقه أن من «قال لا اعلم فقد افتى». وفى الفضاء الإلكترونى وجدنا ان الشيخ «جوجل» أصبح شيخ من لا شيخ له ، فلم يعد الكثير من الشباب يبحثون عن علماء لكى يسألوا عن الأحكام الشرعية، وإنما صار التوجه الى محرك البحث على شبكة الإنترنت الحل الأفضل، فهو يقدم لهم فتاوى سابقة التجهيز ومتنوعة والوصل إليها متاح بلمسة زر، وقد يجدوا فيه الإجابة التى تناسبهم (حسب الطلب) وهذا يزيد من حالة الفوضى.وعلى مستوى إدارة الخطاب الدينى او العمل على تجديده يلاحظ لجوء المؤسسات الدينية الرسمية الى حلول ارتجالية وفوقية، هى أقرب إلى «الشو الإعلامى» وليس العمل المؤسسى او العلمى، مع غياب للتنسيق فيما بينها، فضلا عن التعامل السطحى مع القضية.باستثناء بعض المبادرات الفردية التى قد لا تجاوز عقد ندوة حول تجديد الخطاب، لا احد يعلم اين ذهبت توصياته ولا يتيقن من وصولها إلى من يعنيه الأمر، لم نجد شيئا ملموسا مقننا يمكن طرحه للنقاش والبناء عليه فى موضوع الخطاب الدينى وتطويره باتباع الوسائل العلمية التى تتبعها مختلف دول العالم المتقدمة لمواجهة مثل هذه النوعية من المشكلات الفكرية والثقافية المعقدة.على سبيل المثال كان المتوقع من المؤسسات الدينية فى مصر (الأزهر الجامع والجامعة، والأوقاف، ودار الإفتاء) ان تكون فى حالة استنفار وتوظف كل إمكاناتها العلمية والبحثية لوضع قضية ضبط وتجديد الخطاب الدينى على طاولة البحث العلمى وتحليل مكوناته آخذا فى الاعتبار تعدد الخطابات الدينية وتنوع مضامينها وكثرة مصادرها، فضلا عن أهمية التعاون مع المؤسسات الاخرى بالمجتمع ذات العلاقة كالاسرة والمدرسة، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث ولم نسمع حتى عن مبادرة لتقييم التجارب السابقة التى رعتهاالدولة لمواجهة الفكر المتطرف عبر الحوارات المطولة التى قامت بها عدد من علماء الأزهر مع مجموعات من شباب الجماعات الإسلامية داخل السجون وخارجها فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، واسفرت عن مراجعات فكرية صدرت فى عدة كتب، لم تلق ما تستحقه من الاهتمام والبحث. لكل ذلك نظل فى تعاطينا مع قضية الخطاب الدين نسير فى دائرة مفرغة قد نثور فيهاعلى تهافت الشيخ «مبروك» ولكنها قد لا ننجو من أفخاخ الشيخ «جوجل» ! لمزيد من مقالات د. محمد يونس