حين كنا في أول مدارج الشباب أو قبلها في سنوات المراهقة.. ندرس الآداب من شعر ونثر واجناس ادبية مختلفة من ايام الجاهلية إلي القرن العشرين, كان تعبير عصر الانحطاط في وصف احوال الناس يصدمنا, يجرح رومانسيتنا مثل صاعقة تضرب سحابة عابرة فوق بحيرة البجع, قرون طويلة بدأ ظلامها مع انهيار امبراطورية العباسيين تحت سنابك خيول المغول واشتد بدخول العثمانيين الذين اطفأوا ذباب المعرفة المتبقية في بلاد الشرق! وكان الوصف المهين يستفزنا ويفجر فينا عشرات الاسئلة المندفعة إلي عقولنا الصغيرة تنهش فيها وتربكها وتصيبها بالصداع.. ونظل نبحث وننقب ونحاور.. قد نعثر علي اجابات لها وقد لانعثر, لكن سؤالا واحدا لم نجد له اجابة ابدا وإذا فسره لنا اساتذتنا لا نقتنع بما يقولون.. وكان سؤالنا الصعب هو: كيف قبل الناس ان يعيشوا في عصر انحطاط ورضوا به دون ان يمزقوه اربا ويصنعوا من اشلائه فجرا مشرقا؟! كان يغيظنا إلي حد الجنون ان اجدادنا من أهل ذلك الزمان قد زاغ بصرهم وطمست بصيرتهم وخبا ادراكهم, فلم يشعروا ابدا انهم في عصر انحطاط, وتسربلوا في راحة الجهل ونعيمه الساذج, تتقدم بهم الأمم وهم مربوطون إلي الأرض بقيود من افكار بالية خليط من الخرافات والغيبيات وقليل من صحيح الدين! وفي خضم الحياة المترعة بالقسوة والصراع والتدافع والمقالب الصغيرة والاساليب الملتوية وسيادة انصاف الموهوبين تبدد السؤال تماما, وربما اخذ لنفسه مكانا نائيا في قاع الذاكرة. سنوات وسنوات.. لم نعد نتذكره.. ولم يعد يشغلنا. وفجأة قفز السؤال امامنا ذات مرة وكنا مجموعة من الاصدقاء نقلب في ايامنا ونتأمل مايجري فيها.. لنجد انفسنا مطالبين بالاجابة عليه وليس أهل ذلك الزمان البعيد, فكيف نجرؤ الآن علي السخرية من عصرهم.. بينما كل ظواهر الحياة من حولنا تدل بشكل قاطع علي اننا نعيش في عصر انحطاط! يا الله.. كيف حدث هذا؟! اين ذهب ما تركته الحملة الفرنسية من أثر؟! أين رفاعة الطهطاوي ومدارس الترجمة والبعثات إلي الخارج؟! أين ثورة العقل والتحديث طيلة قرنين من الزمان؟! أين اعمال صنوع وجمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي ومحمد عبده وعبدالله النديم والبارودي وشوقي وعباس العقاد وطه حسين وأحمد لطفي السيد وسلامة موسي ومحمد حسين هيكل ومحمد مندور وتوفيق الحكيم ولويس عوض وحسين فوزي وعوض محمد عوض ومحمود مختار ومحمد سعيد والشيخ علي عبدالرازق وسيد درويش ومصطفي مشرفة وكمال سليم.. ومئات العقول المفكرة التي حملت المشاعل تبدد بضوئها الظلمة المخيمة علي سمائنا؟! أين ذهب الضوء الذي نثروه في كل ركن من أركان حياتنا, في الادب والشعر والطب والفلسفة والقانون والنحت والرسم والمسرح والدين والعلوم والسينما؟! لماذا ظلت الظلمة ساكنة في عقولنا؟! شيء مروع.. احساس قاتل ان تكتشف فجأة أنك تعيش في عصر انحطاط من تلك العصور التي كنت لا تتردد في لوم أهلها وتبحث عن آلة الزمن تسافر إليهم وتسألهم: كيف قبلوا به؟ ولماذا لم يتمردوا عليه؟! لم يعد للسؤال جدوي.. ولا العثور علي آلة الزمن يفيد, فالمصيبة باتت هنا.. في زمننا.. في كل شيء يحيط بنا.. أنظر إلي سلوك الناس في.. الإدارة.. العمل.. النظام العام.. القانون.. المباني.. المحاكم.. الملاعب.. الغناء... الرقص.. الصحافة.. اللغة.. الشوارع.. ما كل هذا التراجع الذي حل بنا؟! انغمسنا جميعا في مظاهر الحياة وغفلنا عن مضمونها. عندنا كل مظاهر الحياة العصرية.. لكننا في الجوهر متخلفون.. خلف غير صالح في القرن الحادي والعشرين.. يمرحون في صحراء التخلف! لم يعد السؤال: لماذا قبل الأقدمون به وارتاحوا إليه؟!.. بل بات ماذا نصنع نحن؟!.. ولماذا لانشعر بأي غضاضة؟! ما أصعب أن يشعر المرء بأنه يعيش في عصر انحطاط.. مدركا له, ولا تملك حياله ردا كالقضاء والقدر! إدراك يفسد عليه حياته.. يحيله إلي جهاز ارصاد مجتمعي, يراقب ويسجل ويفسر ويحلل, تصرفات الآخرين المتقاطعة مع حياته في الطريق, في السينما, في العمل, في الورشة..فيجد نفسه كما لو أنه فريسة تحت اقدام تنين الانحطاط! يا تري من المسئول؟! وتحديد المسئولية هنا ليس من قبيل إلقاء الأسباب علي من نظنه مسئولا.. سواء كان الدولة أو النظام العام أو المجتمع كله.. ثم نذهب إلي المسجد ونستغفر لهم ولنا, أو إلي فراشنا نخلد إلي النوم, أو إلي لقاء سمر ننم ونتسلي.. أو إلي مول نتفرج ونتسوق أو إلي مقهي ندخن الشيشة بالساعات أو إلي شاشة فضائية نفرج عن كبتنا في عري الغناء القبيح, كأننا ضحايا لانملك لأنفسنا نفعا أو ضرا.. وليس بأيدينا ما نفعل.. علي طريقة ما فيش فايدة أو ياعم هي البلد بلدنا! فالبلد بالقطع بلدنا..لكن أي بلد في الدنيا إذا أهمله أهله أو أفسدوه أو سكتوا علي إفساده.. فهم الذين خرجوا منه وهجروه حتي لو ظلوا موجودين فيه بأجسادهم! ودائما فيه فائدة إذا عزمنا وسعينا إلي إزالة الصدأ المتراكم علينا, وعملنا بالطريقة الصحيحة! يا تري من المسئول؟! سؤال هدفه البحث الهادئ عن مفتاح القفل المركب علي عقولنا, لعلنا نعثر عليه ونحرره من سجنه.. فعقولنا هي ادواتنا الفاعلة وآلات الرفع فينا القادرة علي انتشالنا من وهدة التخلف ونقلنا من الانحطاط إلي الرفعة! وللأسف.. كلنا مسئولون.. لا احد بريء! والمصيبة الكبري ان جزءا كبيرا من المجتمع لايحس فقط بأنه يعيش عصر انحطاط, بل يقاوم اي محاولات للتحديث.. جزء ركن إلي ثقافة اغلبها بالسمع وقائمة علي النقل والتكرار والخرافة والقدرية والجبرية والتواكل والبعد عن التجريب وعن النقد والمقارنة وكراهية الغرباء والتصنيف الطائفي واعتبار الجديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ويتصرف هذا الجزء الكبير كما لو أنه يملك الحقيقة المطلقة! نحن في اشد الحاجة إلي مجتمع مختلف, يعمل بالتفكير العلمي المنظم, ويكسر سلاسل العادات والقيم القائمة علي التمييز وعدم المساواة واستغلال النفوذ, يتبني منظومة قيم قائمة علي العدل, تعلو فيه قيمة الانسان ايا كان علي قيمة الوظيفة والثروة والمكانة! دور الدولة مهم جدا.. ودور المجتمع والناس أيضا مهم! فلماذا لانبدأ الحركة فورا إلي الأمام؟! [email protected]