ثمة لحظة كاشفة الآن على مستوى العالم، تختبر فيها كل مقولات العالم المتحضر، حول قيم التقدم والاستنارة، والانتصار للحرية والقيم الإنسانية التى تجافى القتل والتكفير والتنكيل بالبشر تحت غطاءات دينية وأيديولوجية، إنها اللحظة ذاتها التى تعانيها المجتمعات العربية وهى تتعاطى مع تراثها جميعه من منظور أحادى، وتمنحه قداسة مطلقة، فلا ترى المشكلات الحقيقية الكامنة فى المتون القديمة والتأويلات المفرطة فى شططها للنصوص الدينية، لنصبح أمام خريطة متغيرة للعالم، ومهددة لوجوده الحر والآمن فى آن. تتواتر التصريحات الإعلامية منذ أكثر من عام، وتحديدا منذ 23 سبتمبر 2014 عن التحالف الدولى الذى تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد داعش التى تصر وسائل الإعلام الغربية ليل نهار على وصفها بتنظيم الدولة الإسلامية، وتتوالى الضربات لنجد أنفسنا أمام تمدد داعشى خطير فى سوريا والعراق، وكلما تشتد الضربات الإعلامية لا الجوية كلما تقوى داعش وتهيمن على المزيد من آبار النفط، وتسيطر على المزيد من الأراضي، وتسبى المزيد من النساء، وتقتل المزيد من الأطفال، وتدمر المزيد من عيون الآثار والحضارة فى المنطقة والعالم معا!. إنها المفارقة المخزية التى كشفت عنها الضربات الروسية الحقيقية لا الإعلامية كما فعلت أمريكا ومن دار معها، حين فر الداعشيون من بعض الأمكنة التى سيطروا عليها. إن وجود داعش فضلا عن تمددها بدا نتاجا لجملة من الممارسات المتقاطعة والكاشفة عن عالم يتداعي، يفتقد لأدنى مسئوليات التصور الأخلاقي، فتخون بعض القوى الكبرى مبادئها التى قامت عليها، وتدعم الكيانات المتطرفة فى العالم وفى متنها داعش، وتتحرك وفق مصالحها الخاصة، التى ترى فى العالم مجرد سوق للاقتتال، ولبيع السلاح، مثلما تريد تقسيم كعكة الشرق الأوسط الجديد، وتسليمه على طبق من ذهب للوكلاء الجدد فى المنطقة: تركيا وإسرائيل وإيران، هذا العالم الغربى المتحضر دعانا فى المشرق لاستيعاب المتطرفين وإدماجهم فى بنية المجتمعات العربية، وصرخ أوباما كثيرا من أجل أطروحاته المعتمدة على تصورات نظرية لساسة ومستشرقين وباحثين واستخباراتيين، غير أنه وبعد شهور قليلة يفتح مواطن تم إدماجه واستيعابه النار على رواد مؤسسة للمعاقين فى كاليفورنيا بأمريكا الأوبامية، فيسقط أكثر من أربعة عشر قتيلا فضلا عن عدد آخر من الجرحي، ولم يكن هذا المجرم الإرهابى المدمج والمستوعب وفق تصورات الرئيس الأمريكى بمفرده، بل كانت معه زوجته المدمجة هى الأخري، وتدعى تشفين مالك، التى كانت مهيأة لمهمتها الانتحارية تماما، بالحزام الناسف الذى يحيطها، وشاركت زوجها سيد فاروق فى الهجوم على المركز، ومن اللافت فى الأخبار المتواترة عن هذا الحادث الإرهابى أن فاروق وزوجته قد تركا ابنتهما الرضيعة والبالغة من العمر ستة أشهر عند أمه، وأنهما قد أطلقا حوالى مئة وخمسين رصاصة فى المركز، وأن المحققين قد عثروا على قرابة خمسة آلاف رصاصة فى منزل الثنائى إلى جانب اثنتى عشرة عبوة منزلية الصنع ومواد لصنع عبوات ناسفة! وبما يعنى أن الرطان النظرى حول الإدماج والاستيعاب لم يفلح فى منع الإرهابيين من التخلى عن ابنتهما وتركها تجابه وحدها قسوة العالم، وسقطت كل العواطف الإنسانية وفى متنها الأمومة جراء الاعتقاد الواهم بامتلاك الحقيقة المطلقة، والانطلاق من تصورات بالية يرى فيها الداعشيون أنفسهم أنهم المؤمنون حقا، وأن كل ما عداهم كفار، فى تكريس مستمر لما تعتقده كل التنظيمات الدينية من إخوان وسلفيين وغيرهما من أنهم وكلاء السماء على الأرض. إن التوظيف المخزى لداعش من قبل بعض القوى الكبرى فى العالم، فى محاولة منها لتقسيم العالم العربى وتفتيته من جهة، وإعطاء نفسها شرعية للتدخل فى أية دولة من جهة ثانية، يعد عارا كبيرا، كما يكشف عن التناقضات الجوهرية بين الخطاب الإنسانى التحررى الذى تطرحه بعض الدول الكبرى والممارسات الفجة التى تصنعها. أما لدينا فى العالم العربى فإن ثمة حاجة ماسة كى ندرك أن التحالف بين الرجعية وقوى الاستعمار الجديد على أشده الآن، وأن مخططات التقسيم للمنطقة لم تزل قائمة، وأن ما صنعته مصر من إيقاف للزحف الإمبريالى على العالم العربى عبر الوسيط الإخوانى الجاهز لتسليم مفاتيح الوطن فى أية لحظة، قد أسهم فى تعطيل المشروع الأمريكى إلى حين، وأن المقاومة الحقيقية تبدأ الآن، ولذا فلا بد من تقوية القدرة المصرية الذاتية، وفتح مسارات جديدة مع شركاء جدد فى العالم، خاصة وأن ثمة محنة حقيقية فى النظام الدولى الراهن جراء سيطرة القطب الواحد على مقدراته، كما أنه لا بد من تعزيز مناخات الحرية، والتكريس لقيم التسامح والمواطنة، للقضاء على مناخ التعصب الدينى الراهن، فضلا عن حتمية خروج مصر من الصيغة السبعينية التى زاوجت بين الفساد والرجعية فى خلطة أودت بالبلاد إلى كارثة حقيقية ندفع ثمنها الآن. فى ظل عالم متغير باستمرار، قائم على التحول والتنوع فى آن، لا يجب على الإطلاق تحكيم الماضى فى الحاضر، ولذا فإن هناك ضرورة تاريخية الآن لتنقية التراث من كافة الشوائب التى علقت به، وإفراغه من مناخات العتمة التى تجعل أما تترك طفلها الرضيع وتذهب لتفجير نفسها وقتل المخالفين لها، هذه المفارقة المؤسية تكشف عن وعى ماضوى ضد حركة التاريخ، وضد كل القيم الإنسانية الخالدة. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله