من فوق أحد منابر العراق، وفى الجامع الكبير بالموصل تحديدا، يقف شيخ ملتح، جهم الوجه والهيئة، يعلن وسط أتباعه أنه قد أخذ البيعة، وصار خليفة للمسلمين، والبيعة هنا كذوب، مثل الرجل تماما، ومثل السياق كله، سياق من القتل والتدمير وتهجير المخالفين فى العقائد من مدنهم وقراهم، وسبيهم، والوهم المصدر لجموع المغيبين فى جماعات القتل باسم المقدس، إنهم يبغون تحقيق وعد الله، وخلافة المسلمين! شيء يشبه عبثية "أستاذية العالم" التى صدعنا بها الإخوان. والمحصلة أن كل معدلات التنمية ومؤشرات التقدم فى بلدان العالم العربى والإسلامى مخزية بما يليق بداعش والقاعدة وإخوان البنا وكل الطامحين لحكم بلاد نهشها الفقر والجوع، ولن تستطيع الصبر أبدا على استبداد باسم المقدس، يضع المخالفين جميعهم فى خانة الكفار وأعداء الله، ولا يعلمون أن الله القدوس أرحم كثيرا مما يظنون. فى مشهد آخر، عبثى أيضا، يقف عدد من مسلحى التظيم الإرهابي”الدولة الإسلامية فى العراق والشام”، والمعروف إعلاميا ب”داعش”، رافعين علم القاعدة، ومعلنين أنهم ما خرجوا إلا من أجله، بعد أن أسقطوا علم فلسطين وداسوه بالأقدام، متهمين إياه بأنه”يثير الفتنة”!، وربما يحيل المشهد المشار إليه والمتداول على مواقع اليوتيوب، إلى حال من العمى الفكرى المصاب به إرهابيو داعش ومن والاهم، فضلا – وهذا هو الأهم- عن المنطلقات الأيديولوجية الغارقة فى وحل التكفير، والمتكئة على احتكار الحقيقة، والاعتقاد الراسخ فى أنهم وحدهم المؤمنون، وأن كل من عداهم كافر لا يعتد به. وبدا الوهم الداعشى الذى خرج من عباءة القاعدة، مشغولا بحلم الخلافة الوهمية، ساعيا إلى استثمار الواقع المعقد للعراق المنهك والمفتت منذ الاحتلال الأمريكى فى العام 2003، وما خلفه من تكريس للطائفية، واستنفار لكل عوامل الفرقة ما بين أبناء الوطن/ الأم، وبدا المسيحيون والتركمان والشبك فى مرمى النيران. ونال المسيحيون العراقيون فى الموصل النصيب الأكبر من الاحتقار والتهميش والمذلة، بدءا من مصادرة حريتهم فى الاعتقاد، وتخييرهم ما بين القتل أو الجزية او الدخول فى كنف داعش، مرورا بتسريب أخبار عن ختان النساء الموصليات، وصولا إلى ملاحقة الفارين من جحيم الإرهاب، والتنكيل بهم، وبما يعنى أن المناخ الجديد الذى تحاول الجماعات الإرهابية فرضه على المنطقة العربية، يبدو وباختصار جزءا من سياقين متجادلين: الأول يمكن فهمه فى إطار العلاقة الجدلية بين الرجعية والاستعمار، فقوى الاستعمار الجديد تحاول دوما توظيف قوى التخلف والرجعية داخل الدول العالمثالية، إعاقة لعوامل النمو والتطور الإنسانى من جهة، وتكريسا للتصورات الأحادية عن العالم، والتى يتبناها كل أبناء التنظيمات التكفيرية من جهة ثانية، ومن ثم تبدو داعش وجها من وجوه القبح الأمريكي، خاصة حين تنشر تقارير عن علاقة أبى بكر البغدادي” الخليفة المزعوم” بالمخابرات المركزية الأمريكية، وبما يعنى أننا لسنا سوى أمام شيخ معمم من صنائع السى أى إيه، ومن فوائض تصديرها المتتالية لعالمنا العربى المنكوب. أما السياق الثانى فيتمثل فى المناخات العربية القابلة للوصاية باسم الدين، جراء شيوع حالة مخيفة من الرجعية، والتى تظهر كل يوم فى عشرات الخطابات اليمينية، استهلاكية الطابع، والتى تستخدمها الجماعات الدينية لتمرير خطابها الفارغ من المعنى للجماهير، عبر إقناعهم بأنهم يملكون وحدهم مفاتيح الجنة الأرضية، كما امتلكوا مفاتيحها فى السماء بامتلاكهم صكوك الهداية والغفران، و من ثم السيطرة على عقول الشعوب وخلق سياق ماضوى يعادى كل ما هو مختلف، وحر، وجديد. كما توظفها الانظمة العربية فى كثير من الأحايين – للأسف الشديد- لتمرير المزيد من سياسات القمع والاستبداد. وهذان السياقان يتقاطعان بالمناسبة، ولا انفصال بينهما، فكلاهما ينبيء عن عالم عربى فى أزمة، تشبه أزمات الأبطال الإشكاليين فى الرواية الجديدة، وبما يقتضى عملا مستمرا صوب التكريس لقيم جديدة بنت أوانها، تعيد الاعتبار للعقل الطليعى الجديد، وتخلق مناخا مختلفا يتمثل فى حضور حقيقى لثقافة التسامح، وقبول الآخر، وهذا لن يحققه إلا الإيمان العميق بالدولة المدنية فى مقابل دولة الخلافة الداعشية، والتى كان نهج المحاصصة الطائفية المتبع فى العراق الآن، سببا مركزيا من أسباب استشرائها فى الموصل، فالروح الواحد المستشعر ألما واحدا قد نالت منه خطة الأمريكى بريمر و سعيه العمدى لتقسيم العراق، مثلما نال منه من قبل القمع السياسى لنظام صدام حسين. وتظل المفارقات وحدها شاهدة على بؤس الراهن، فالقاعدة تطمح فى إقامة الخلافة! والداعشيون يطمحون فى إقامتها! وأردوغان يداعب الحس الإسلاموى لدى جماهير الأتراك المتدينين بتذكيرهم بالمجد الغابر لخلافتهم العثمانية، والإخوان داعبوا وجدان جماهيرهم بدائية الوعى بحتمية تطبيق الشريعة تمهيدا للخلافة وأستاذية العالم!، والسلفيون يرون فى الخلافة اصلا من الأصول! وحين تنظر للأمر بدقة تكتشف أنك امام حواة لا أكثر، لكنهم حواة مبتدئون، والأدهى أنهم حواة يتاجرون بالمقدس خدمة لأغراض تخصهم، فيجعلون من الدين مطية لتحقيق ما يبتغون. ولخلق حالة من التفوق المعنوى الكاذب، تسعى الجماعات المتطرفة إلى الإيهام بأنها وحدها صاحبة الحق فى التحدث باسم الدين، فتجعل من نفسها وكيلا للسماء، وتتعاطى مع من ليس منها بوصفه إما جاهلا أو كاذبا، والكل كافر عندها، فيصير التكفير صيغة للحياة بالنسبة لها، وطريقتها فى رؤية العالم، وتسقط كل معانى الأخوة الإنسانية لتحل محلها مقولات الدم، والقتل باسم الدين، هذا الذى قد باعوه فى أول مرة سفكوا دما، أو استحلوا حرمة إنسان، أو نفذوا ما يطلبه منهم ساداتهم المنمقون فى عواصم المراكز الأورو- أمريكية التى لا تزال تدفع إلينا بالنفايات. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله