حلم «العالم الواحد» له مبشرون ودعاة. عنوانه الأساسى هو حرية انتقال السلع والأفكار بين أرجاء المعمورة، ومنه تخرج العناوين الفرعية التى يلتقى حولها كل من يرى العالم يتجه فى مسار واحد: اقتصاد السوق، والديمقراطية، والثقافة الغربية، حقوق الإنسان، الإعلام الجديد، الخ. ولكن العالم الواحد، رغم تنامى دور المؤسسات الدولية التى تتولى شئونه، وتصاعد ثقل الشركات الكونية الكبرى عابرة الحدود، وكثافة التواصل الالكترونى المذهل بين أرجائه، يواجه مشكلات جمة تقطع أوصاله، وتباعد بين مجتمعاته، وفى مقدمتها المجتمعات العربية، والتى تتطلع إلى أن تكون جزءا منه، تحمله على مواجهة تحدياتها من منطلق العمل المشترك. هل يمكن أن يتحقق ذلك؟ سؤال كان موضع بحث على مدى يومين فى جامعة «اكسفورد»، إحدى الجامعات البريطانية العريقة التى فتحت أبوابها للتعليم منذ عام 1096م، ولاتزال تحافظ على عراقة وأصالة مبانيها، رغم التحديث العلمى الذى تشهده كلياتها الثمانى والثلاثون، والتى تضم نحو عشرين ألف طالب وطالبة من شتى دول العالم. والمؤسسة التى طرحت السؤال هى «عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية» بالكويت، والذين سعوا للإجابة عنه مثقفون وأساتذة جامعات وساسة وخبراء من العالم العربي، وأوروبا والولايات المتحدة. انصبت النقاشات على شجون العالم العربي، بما يشبه الاعتراف الضمنى بأن العرب ليسوا جزءا من العالم الواحد، أو أن العالم لايزال ينكر أنه واحد حيالهم، تاركا مشكلاتهم تتراكم، وأوضاعهم تزداد تدهورا، يحاصرهم بشكوكه، واتهاماته، وشروطه القاسية. هناك حديث مستمر عن «المصير الانسانى المشترك»، لكن يبدو أن الإدراك به يزداد ليس بحثا عن فرص بقدر ما هو تعامل اضطرارى مع المخاطر. فى الأعوام القليلة الماضية ظهرت قضيتان جسدتا حجم المخاطر المشتركة: العنف واللاجئون. فقد تحولت المنطقة العربية إلى أكثر المناطق التى تشهد عنفا على مستوى العالم. حروب مستعرة فى عدة بلدان، وإرهاب يكشف وجها وحشيا، ويدمر الحضارة والتراث، ويمزق نسيج المجتمعات. يضاف إلى ذلك قضية اللاجئين العرب، الذين هم نتيجة مباشرة لتفشى العنف، فقد صارت نسبتهم نحو خمسين بالمائة من اللاجئين فى العالم، رغم أن العرب يمثلون فقط خمسة بالمائة من سكان العالم. وصار كل ما ينشده العرب مساندة دولية فى محاربة الإرهاب، واستقبال انسانى للاجئين الذين يخوضون رحلة الموت إلى الشاطئ الشمالى من البحر المتوسط. ليس هذا فحسب، بل إن تصاعد قضية اللاجئين أوجد طلبا ضاغطا على موارد المجتمعات العربية المجاورة لمناطق الصراعات، والمثال البارز على ذلك الحالة الأردنية، واللبنانية، والمصرية. ولم يؤد العنف الذى يجتاح المنطقة العربية إلى تهجير البشر فقط، بل تسبب فى تدمير مقومات الحياة فى مجتمعات كثيرة من حيث التراجع المذهل فى النشاط الاقتصادي، وغياب الأمن، وتقليص التعددية الدينية، وتدهور البيئة، وتدمير التراث الثقافي، وتشكيل ذاكرة محملة بالكراهية، والرغبة فى الانتقام، والتخلى عن المشترك الوطني، وتشوه الحواضر العربية نتيجة الهجرات الداخلية من الريف إلى المدينة، وغياب التخطيط العمرانى الحديث. فى ظل هذه التحديات لا يمكن تجاهل قضية «الأمن الغذائي» فى مجتمعات تعتمد فى توفير ثلث طعامها على الاستيراد فى الوقت الذى تواجه فيه تراجعا اقتصاديا، وتحديات أمنية، وفقرا فى السياسات العامة الكفء، وارتفاع منسوب الإحباط لدى الأجيال الشابة التى حلمت يوما بربيع عربى يعزز مشاركتها سياسا واقتصاديا وثقافيا، فإذ بها ترى واقعا يزداد سوءا. وهكذا تضمنت الإجابة عن سؤال «العالم الواحد والتحديات المشتركة» النظر فى تدهور أحوال العالم العربي، وهو ما يجعلنا نطرح سؤالا آخر: ماذا ينتظر العرب من العالم الواحد؟ الإجابة هى مزيد من التجاهل، وعدم الاكتراث، والمشاركة فى تدهور أحوال العرب من سيء لأسوأ. لم تساعد القوى المهيمنة على شئون «العالم الواحد» المنطقة العربية على التخلص من الإرهاب، أو العنف أو تحقيق الديمقراطية، أو تطوير مجتمعاتها، بل على العكس، تمزقت مجتمعاتها، وتدهورت اقتصاداتها، وتراجعت فيها الديمقراطية، وضربت العشوائية كل مناحى الحياة بها. العالم العربى بحاجة إلى أن يساعد نفسه أولا حتى يصبح جزءا من «العالم الواحد«، ولن يكون ذلك إلا بتجفيف منابع الاستبداد وتعميق الديمقراطية، وتوفير التعددية سياسيا وثقافيا، وإزالة مسببات العنف، ووقف النزيف البشرى والاقتصادى والثقافى المرافق له، وتطوير التعليم والتدريب بما يسمح بوجود أجيال تؤمن بقيمة العلم فى التطور الاجتماعي، ومشاركة أوسع للشباب فى الشأن العام، والآخذ بمبادئ الحكم الرشيد: المساءلة، والشفافية، وحكم القانون، والسياسات العامة الكفء. هذه الغايات تشكل فى ذاتها ضرورة أساسية لإعادة بعث روح الحياة فى المنطقة العربية التى تزداد صورتها قتامة فى الإعلام العالمى، فهى فى نظره مرتع للعنف، ومفرخة للإرهاب، ومصدر متجدد للاجئين، وموطن للاستبداد، وسوق للاقتصاد الاستهلاكى غير المنتج. بالطبع يجب أن نذكر أنفسنا، وغيرنا باستمرار بأن هناك عالما واحدا، وتحديات إنسانية مشتركة، ونلح على ذلك، وهو ما نجح فيه المؤتمر، لكن فى الوقت نفسه يجب أن ندرك أن ولوج العرب إلى العالم الواحد له اشتراطات لم نبلغها بعد. لمزيد من مقالات سامح فوزي