فى إطار رصد ما تمر به التجربة المصرية من فعاليات، يحسن بنا التمييز بين تحول ديمقراطى ينشأ بشكل طوعي، وآخر يتفجر عنوة؛ فبينما تدرك بعض الأنظمة حتمية انصياعها لطموحات الشعوب الساعية إلى اللحاق بركب المجتمعات الديمقراطية، ومن ثم تجرى تلك الأنظمة تغييرات «حقيقية» تخفف بها من قسوة إحكامها على السلطة، وتتيح فرصاً أكبر أمام مشاركة سياسية فعالة، تستلهم خصوصية المجتمع، ولا تغفل أيضاً عن المبادئ العامة للديمقراطية باعتبارها قيماً إنسانية عالمية، وهنا تتم عملية التحول الديمقراطى فى ظل وجود النظام الحاكم؛ إذ هو يتيح «للآخرين» مشاركته على أسس ديمقراطية. أما إذا تمادى النظام الحاكم، وتجاهل حقيقة فرصه فى البقاء فى السلطة، فانفجرت الثورة ضده، فلا سبيل أمامه إلى المشاركة فى التحول الديمقراطي، التى باتت حكراً على القوى الثورية وإرادتها، وغالباً ما تتم محاكمة النظام القديم. لا يعنى ذلك خلو مراحل التحول الديمقراطى من أى أثر للنظام القديم؛ حيث تواجه عملية التحول الديمقراطى ما يُعرف «بالدولة العميقة» والأخيرة تحتاج وفق دراسات عديدة إلى عشر سنوات لاقتلاع جذورها من البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، على نحو يلقى بها بعيداً عن مناطق التأثير الفعال فى إدارة شئون الدولة. من هنا يمكن رصد التجربة المصرية فى حدود ما تسمح به عملية التحول الديمقراطى الناشئ عن تفجر ثورة شعبية؛ ومن ثم لا مجال أمام النظام القديم للمشاركة فى عملية التحول الديمقراطي. وهنا يبرز الجدل المتعلق بالعلاقة بين الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو، ومدى ما يمكن اعتماده من كون ثورة الخامس والعشرين من يناير تمثل منطلقاً لثورة الثلاثين من يونيو، أم أن الثانية يحسن احتسابها داخل مفهوم «الثورة المضادة»!. ودون المساس بما جاء فى ديباجة الدستور من ذكر «للثورتين»: فإن تجاوزاً وقع بالفعل: إذ ليس بعد ثلاثين شهراً يمكن اعتبار ثورة يناير قد بلغت منتهاها، فنحاسبها فتنهض ثورة «جديدة» فى الثلاثين من يونيو؛ ومن ثم فثورة الثلاثين من يونيو ما هى إلا موجة تصحيحية طبيعية تنبع من مبادئ وقيم ثورة يناير التى أهدرها حكم النظام الإخواني؛ بينما أكد كون نظام مبارك والجماعة الإخوانية الأركان الرئيسية للنظام السياسى قبل ثورة يناير، يؤكد ذلك هامشية الدور الذى لعبته الأحزاب السياسية فى أثناء وبعد ثورة يناير، وامتد الحال كذلك وصولاً إلى الموجة التصحيحية فى الثلاثين من يونيو. وعلى هذا فإن مفهوم «الثورة المضادة» يضيق عن استيعاب جوهر الثلاثين من يونيو، كموجة تصحيحية لثورة يناير: بينما يفسر مفهوم «الدولة العميقة» حقيقة وجود نظام مبارك فى الصفوف الداعمة للثلاثين من يونيو، باعتبارها الفرصة الأخيرة، التى جاءتهم، أقرب مما كانوا يتوقعون، بما يمكن أن يجابهوا به قيم ومبادئ ثورة يناير.! لعل فيما سبق، مقدمة ضرورية لرصد موضوعى للموقف الراهن للتجربة المصرية، والتى على أساسها ندرك الوضع «الاستثنائي» الذى يعانيه النظام الحاكم الحالي: فهو فى حقيقة الأمر، وبحكم الدستور، يعبر عن متناقضات جمعت بينها الموجة التصحيحية فى الثلاثين من يونيو، أبناء ثورة يناير وأبناء مبارك!، فى صورة قاسية من تناقضات العملية السياسية، باتت تُفصح عن تشابك بالغ التعقيد، لا يتيح استخلاص مجموعة من المشتركات الوطنية تبتعد عن العناوين العريضة للأمن القومي، دون الدخول فى تفاصيل المشهد الداخلى على نحو ما تفرضه وتؤكد عليه حتمية وضع إستراتيجية وطنية، يستلهم منها النظام الحاكم رؤاه وخطواته. من هنا وجد النظام الحاكم نفسه مطالباً بتهدئة «الأبناء من الجانبين» فى وقت يدرك فيه الرئيس، بخلفيته العسكرية، أن قيادة ناجحة لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن سياق وطنى متلاحم، وربما أشارت عليه درايته السابقة، كرجل معلومات، بكثير من تفاصيل ورموز الحياة السياسية، على نحو يكشف حقيقة ما يختبئ داخل الخطاب السياسى الدعائى الصادر عن البعض ممن ارتهنوا العمل السياسى لخدمة مصالحهم الذاتية. واللافت أن تزداد الضغوط من جانب القوى السياسية على النظام الحاكم، بدعوى افتقاده رؤية سياسية، والواقع أن التباساً يمكن أن نرد إليه الأمر إذا ما كانت تلك الضغوط صادرة عن غير القوى السياسية المنوط بها المساهمة بشكل فاعل فى تشكيل تلك الرؤية السياسية، أما وإن الأمر يتعلق «برؤية» القوى السياسية؛ فإن تشوهاً معيباً بات يطال العملية السياسية فى صميم جوهرها. ذلك أن الدستور الذى سحب الكثير من الاختصاصات من المؤسسة الرئاسية لمصلحة السلطة التشريعية، إلى جانب تشكيل الحكومة من قبل الأغلبية فى البرلمان، بحكم تكليف الحزب صاحب الأغلبية بتشكيل الحكومة؛ ومن ثم فنحن فى انتظار برلمان من شأنه أن يفرز حكومة سياسية منتخبة؛ وعلى ذلك فغياب رؤية سياسية متكاملة منوط أمره إلى «المنوهين» إلى غيابها من القوى السياسية، متى أدركوا سبيلاً صحيحاً إلى مسئولياتهم الوطنية. وقد يرى البعض أن تأجيل الانتخابات النيابية خارج عن إرادة القوى السياسية، وهو أمر صحيح ولكن ليس على إطلاقه، فقد عجزت الأحزاب السياسية عن تخطى نوازع «المحاصصة السياسية» وما أدت إليه من فشل لكثير من الجهود التى استهدفت التحالفات الانتخابية، والتى تطلعت إلى ما يفوق الخبرات السياسية المتاحة فوصل الأمر حد إدعاء استهداف تحالفات سياسية يمتد أثرها إلى داخل البرلمان!؛ وعليه فقد عجزت الأحزاب عن نيل مصداقية تُلحق بها ما تمارسه من ضغوط على النظام الحاكم، إذ فشلت فى إنتاج صيغة مشتركة، تؤكد صحة وجدية مساهمتها فيما يحيط بالتجربة المصرية من معوقات أمام تنفيذ الاستحقاق الثالث والأخير من خريطة المستقبل، والتى بمقتضاها يمكن تفعيل دور الأحزاب فى العملية السياسية، سواء من حيث أدائها البرلماني، أو قيامها بتشكيل الحكومة المنتخبة المنتظرة، على نحو يدعم إدراك رؤية سياسية تقود الوطن إلى تجسيد مبادئ وأهداف الثورة المصرية. وهنا ينبغى ألا يغيب عنا جهود نظام مبارك فى «استمالة» الميزان قدر ما تسمح به سعة صدر رغبة النظام الحاكم فى مراضاة الأبناء جميعاً، وكذلك ما تمرره قناعات، متفرقة ومتراصة، تنتمى فى حقيقتها إلى ما قبل ثورة يناير. وإزاء هذا الوضع، وعلى خلفية ما أحدثه «التهميش» من انهيارات دولية محيطة، يبدو النظام الحاكم أحرص ما يكون على اصطفاف حقيقى للقوى السياسية. بيد أن وجوهاً شتى لمفهوم «التهميش» قد تجعل منه خياراً لا بديل عنه، إذ باتت الخشية من «التهميش» عاملاً مُعطلاً لحركة الدولة الجديدة صوب أهدافها ومسئولياتها، خاصة وقد طال انتظار البرلمان، وتاق المشهد السياسى إلى حكومة سياسية منتخبة، تنهض بدورها فى وضع الرؤية السياسية المفتقدة. وإزاء طول الانتظار، ووفرة المزايدات، باتت القدرة محدودة على استيعاب متناقضات المكون السياسى للنظام بحكم كُلفتها العالية، إذ بموجبها تظل الدولة الجديدة تراوح مكانها، على غرار ما يشهده الأفق الانتخابى النيابى الحالي، وبالتالى فإن فى البقاء أسرى الرغبة المعتبرة والمقدرة فى تحقيق اصطفاف حقيقى للقوى السياسية، ما يمكن أن يطيل أمد عملية التحول الديمقراطي، بما يدفع بجهود التنمية الشاملة بعيداً عن تجسيد فعلى لمكوناتها السياسية، مُنتجة الرؤية السياسية، إلى جوانبها الاقتصادية والاجتماعية التى اعتلت المشهد منذ الثلاثين من يونيو. والواقع أن الطرح على النحو السابق، لا يحمل «تهميشاً لمكونات سياسية حقيقية، بل فيه التحاق أقوى بواقع اتجاهات وتفضيلات الرأى العام، وقد أدرك الأخير خيبة أمله فى قواه السياسية، تلك القوى المنوط بها بناء وتشكيل رأى عام مستنير: إذ يظل «التهميش» مُستحقاً لأعداء جوهر التحول الديمقراطي، سواء ممن أعلنوا بنوتهم لنظام مبارك فى تحد صريح للإرادة الشعبية الحرة التى عبرت عن نفسها فى ثورة يناير، وفى موجتها التصحيحية فى الثلاثين من يونيو، كذلك يظل «التهميش» واجباً على النظام تجاه من تبرأوا من نظام مبارك بينما هم على دربه يهتدون إلى ما كل يعيق حركة الدولة عن بلوغ أهدافها الثورية، ولا ينبغى أن يغيب «التهميش» أيضاً عن جملة ممن التحقوا زيفاً بثورة يناير؛ ومن ثم يكيلون الاتهامات للنظام الحاكم بتغييب أو افتقاد رؤية سياسية، وهم بالاتهام أجدر، وبين هؤلاء جميعاً ليت البحث يكف عن العثور على «ظهير» للنظام الحاكم، إن كان الظهير مُعيناً على الخلق والتدبير، لا على الردة إلى الخلف. لمزيد من مقالات عصام شيحة