بموجب دورها الرائد فى تعميق وترسيخ العملية الديمقراطية، باتت الأحزاب ظاهرة سياسية جديرة بالاحترام فى الأنظمة الديمقراطية، بينما تُلقى بها الأنظمة غير الديمقراطية إلى الصفوف الخلفية، حيث هوامش الصراع السياسي؛ إذ لا حاجة لتلك الأنظمة الراكدة، إلى روافد تحمل تفضيلات الرأى العام، وتعبر عن الإرادة المجتمعية، من خلال المنافسة على السلطة، والمشاركة السياسية، وغيرها من الأهداف المنوط بالأحزاب النهوض بها فى إطار مسئوليتها الوطنية، وبما ترتبه بالتبعية من مسئوليات تقع على كاهل أعضائها، بينما يتجاوز مجرد الالتزام الحزبي. وفى إطار بلورة رؤية وطنية، تنهض مجموعة من المفاهيم بدور بارز، إذ فى ظلها يمكن صياغة خصوصية كل تجربة وطنية، على نحو لا تذوب معه مشتركات شتى لطالما اجتمعت حولها تجارب ناجحة أكدت الشعوب بموجبها صدق نضالها فى سبيل نيل حقوقها الإنسانية المشروعة. وعلى خلفية أولوية مفهوم «المسئولية الوطنية»، تبرز جدليات شتى، لعل أهمها ما يتعلق بمبدأ «الالتزام الحزبي»، وما يوفره من منعطفات سياسية حادة، بموجبها تعلو مفاهيم لا صلة حقيقية لها بالعملية الديمقراطية؛ إذ تنشأ مشروعية مشكوك فيها تسعى جاهدة لتوفير سُبل آمنة لتصفية الحسابات «المنهارة» بفعل ممارسات فاشلة لطالما فضلت الاختباء خلف ستائر مفهوم «الالتزام الحزبي»، مع ما يضمه الأخير من تحديات للمفهوم الأشمل والأعم فى كل تجربة ديمقراطية حقيقية، ألا وهو «المسئولية الوطنية». ولعل الموضوعية لا تتيح لاختلافنا المبدئى مع السياسة الخارجية الأمريكية، فرصة تجاهل ما يحمله النظام السياسى الأمريكى من قواعد ديمقراطية، يعلو البناء عليها فى الداخل الأمريكي، دون شواهد لها على الساحة الدولية، ما أكد قدرة النظام السياسى الأمريكى على احتواء مفرداته متعددة المنابع الأيديولوجية والعنصرية والمذهبية، وعلى ذلك تجدر الإشارة إلى غياب مبدأ »الالتزام الحزبي« فى النظام السياسى الأمريكي، فكثيراً ما وجد الرئيس الأمريكي، أياً ما كان، معارضة قوية من بعض أعضاء حزبه فى الكونجرس الأمريكي. ولعل من التخريجات التاريخية الوجيهة لمبدأ »الالتزام الحزبي«، ذلك المفهوم الشائع فى الأدبيات الشيوعية المتقادمة، حيث »المركزية الديمقراطية« كفكرة صاغها ماركس وطبقها لينين بتطور لم يفلح فى إلحاقها بالمفاهيم الديمقراطية على نحو موثوق به؛ فليس من شك فى التناقض الواضح بين مكونات المفهوم؛ إذ »المركزية« تركيز للسلطة لا نصيب له من اتساع رقعة المشاركة السياسية كجوهر للعملية »الديمقراطية«. من هنا، لا جدال أن قيود »الالتزام الحزبي« باتت مستهدفة من كل توجه جاد نحو إحداث تغيرات جذرية على سبيل التحول الديمقراطى الحقيقي، وليس مجرد تكتيك لا يبرح موقعه الأثير داخل رؤى رجعية بالأساس، وبالتالى تأتى »المسئولية الوطنية« لتتبوأ موقعها الرائد بينما يمكن أن ينهض بالمجتمعات الساعية نحو مستقبل أفضل يتبنى جوهر العملية الديمقراطية، وفى سبيل ذلك ليس للمنادين بالديمقراطية أن يتخففوا من أعبائها، وما تتيحه من تباينات وتقاطعات، لا يمكن أن تنال من صحة الانتماء والتوجه الحزبي، مادامت بقيت «المسئولية الوطنية» تسمو فى أجندة العمل الوطني، سموها فى الخطاب السياسي.! وعلى خلفية خريطة المستقبل، وما بقى منها من خطوة ثالثة وأخيرة، بمقتضاها تكتمل الأركان الدستورية للدولة، بانتخاب البرلمان الأول لثورة الثلاثين من يونيو، يبدو الأفق السياسي، فى بُعده الحزبي، محل جدل ينال من حقيقة وعيه وإدراكه لخطورة المرحلة الدقيقة الراهنة، وما تحمله من تحديات، لا يمكن مواجهتها وكثير من »القوى« السياسية مُعطلة عن أداء دورها الحقيقي. فواقع الأمر أن اختزالاً معيباً راج فى الأوساط الحزبية، بموجبه ينحصر الدور الحزبى فى خوض غمار الانتخابات البرلمانية؛ ومن ثم لا مجال لكل جهد يسمو فوق ما تفرضه الانتخابات من مزايدات ومساومات، ولا أولوية إلا لكل ما يدفع بنمو عدد المقاعد البرلمانية إلى حدود أعلى من حقيقة وجودها فى الشارع السياسي. ولعل فى ذلك ما يشير بوضوح إلى غياب »المسئولية الوطنية« على نحو يدفع بالمصالح الوطنية العليا إلى مواقع أولية على أجندة العمل الحزبي، تفوقاً على منافع تضيق عن استيعاب الأهداف المشروعة التى نادى بها الملايين فى ثورتى يناير ويونيو؛ وبالتالى فإن الأمر على هذا النحو يزيد من أهمية مراجعات شتى، تطول ما يضمه الفكر الحزبى من مفاهيم ما عادت لها صلاحية تُبقى عليها بضاعة رائجة. وإذا كانت الأحزاب بعيدة عن موقعها المناسب داخل أوساط الرأى العام، وبالفعل هى كذلك؛ فإن بحثاً »فى الداخل« ربما يفيد فى التفتيش عن الأسباب الحقيقية إن كان البعض منهم لا يعلمها!، فنظرة إلى »الداخل« أجدر بجهد حزبى لا يفارق محاولات ابتزاز السلطة التنفيذية، إلى جانب محاولات التشكيك فى قدرة السلطة القضائية على النهوض بمسئولياتها وقد اضطلعت بدورها الدستورى فى سبيل انجاز الانتخابات البرلمانية؛ ذلك أن الأمر على هذا النحو يمهد السبيل إلى خصومة، تعرقل الجميع، إذا ما رسخت أواصر المنافسة والمزايدة بين السلطات المكونة للنظام السياسي، التنفيذية والتشريعية والقضائية. والواقع أن مؤسسية العمل الحزبي، ترفع من مصداقية الأحزاب، وتؤكد حقيقة عزمها على تأسيس حياة سياسية جديدة تتبنى صحيح القواعد الديمقراطية، بما يتجاوز حدود الدعاية الحزبية، وما تقتضيه من طرح «رؤى ديمقراطية» لا تملك إليها سبيلا. كذلك تأتى أهمية التيقن من وجود قناعات حقيقة بما تعلنه الأحزاب من قيم ديمقراطية، ماثلة فيما تفرزه من ممارسات فى غمار المنافسة الانتخابية البرلمانية؛ فسلوك لا يمكن تفسيره بعيداً عن »مبادئ« حكم مبارك، ذلك الذى يدفع بالأحزاب إلى استقطاب شخصيات لا تنتمى إليها فكراً أو عملاً، وتعمل على إغرائها بالانضمام إلى عضويتها، وما هى إلا سويعات قليلة، وتعلن ترشحها فى الانتخابات البرلمانية باسم الحزب!، فيما لا دلالة له إلا عدم قناعة تلك الأحزاب بأبنائها، وإقرار جازم بخلو رصيدهم من الثقة الشعبية اللازمة لنيل تأييد أبناء دوائرهم الانتخابية، على عكس ما تدعى قيادات تلك الأحزاب من وجود قواعد شعبية لها، وفى ذلك يمتد الصراع بين الأحزاب ليبلغ حد تبادل الاتهامات »بشراء« بعض الشخصيات، وكذلك »خطف« أبناء ومرشحى الأحزاب الأخرى، بينما الواقع يؤكد أن لا فارق كبيرا بين الأحزاب فيما تشهده الساحة من محاولات اجتذاب كل شخصية ذات وزن فى دائرتها الانتخابية، دون تمييز يهتم بمدى القدرة والكفاءة وحقيقة الانتماء السياسي، أو حتى حقيقة الانتماء إلى منظومة فساد الحزب الوطني، على غير ما يزعمون. ويأتى دور الشباب فى البناء الداخلى للحزب للدلالة على ما يتمتع به من ديناميكية تتيح تناولاً أكثر إدراكاً للمسئولية الوطنية الثقيلة المنوط بالأحزاب النهوض بها ونحن فى مرحلة تحول ديمقراطي؛ غير أن بعض الممارسات، ولعل أهمها ما يتعلق بالمنافسة الانتخابية البرلمانية على نحو ما جاء فى الفقرة السابقة، ينم عن غياب حقيقى للشباب؛ فليس فى وجود دور فاعل للشباب يمكن أن تستمر الأحزاب على مبادئ حكم مبارك التى سقطت بموجب ثورة قادها الشباب، وبالتالى لا غرابة إن خلت الهياكل التنظيمية من فكر متطور، يؤكد حقيقة تواصل الأجيال، مع ما يتيحه ذلك من تحديث ينال من رؤى الحزب، ويفيد صلاحيته للعمل فى ظل المتغيرات المستحدثة على المجتمع. ولعل فى ذلك ما ينزع عن كثير من الأحزاب حق المزايدة باسم الشباب، ومحاولة اكتساب شرعية ثورية داخل صفوفهم، لا محل لها بعيداً عن عمل وطنى منزه عن المنافع الشخصية. ومع الإقرار بأن الانتخابات البرلمانية منوط بها اختصار عدد الأحزاب السياسية إلى عدد معقول يتفق وطبيعة الحياة السياسية فى مصر، وخصوصية التجربة؛ فإن خلاصة الانتخابات البرلمانية ستعبر بالقطع عن قدرة بعض الأحزاب على الوجود الحقيقى فى الشارع، وامتلاك ناصية المبادرة بتأسيس حركة حزبية صحيحة، مثلما ستؤكد من جهة أخرى قدرة البعض الآخر منها على المرور إلى البرلمان عبر ضبابية الصورة، وستتضح كذلك مدى إمكانية مواصلة المال السياسى دوره الفاعل فى الحياة السياسية، وكذلك مدى ما تتمتع به بعض القيادات الحزبية من قدرة على الاستمرار فى تبرير التحالف مع الجميع، من الحزب الوطني، إلى الجماعة الإرهابية، وحتى شباب الثورة.! لمزيد من مقالات عصام شيحة