ليس إلا خطوة ثالثة، هى الأخيرة فى خارطة المستقبل، تكتمل بموجبها المكونات الدستورية للدولة المصرية، ببرلمان جدير بالمسئوليات الضخمة التى أوكلها إليه الدستور الجديد، فنطوى بذلك صفحات مؤلمة حملت عناوينها الأبرز مضامين لا تتبنى المصالح الوطنية العليا، ولا ترتكز على جوهر ومضمون الثورة المصرية. بيد أن خطوة كتلك، ما كان ينبغى أن يُسمح لها بالخروج عن سواء المسار الثورى، ولا بالتخلف عن البناء على ما وضعه الدستور من قواعد للدولة الديمقراطية الحديثة التى ننشدها، والتى جاء الاستحقاق الرئاسى مرتكزاً عليها. فحرى بحمل أمانة الثورة المصرية، البرلمان المعنى بتكريس مفهوم العمل المؤسسى، على حساب صلات القرابة والمصاهرة والوجاهة الاجتماعية وسطوة المال السياسي، كأدوات بالية لطالما حكمت طويلاً الممارسة الانتخابية البرلمانية. وليس أجدر من الأحزاب السياسية تجسيداً لمفهوم العمل المؤسسى، حيث المشاركة السياسية من خلال برامج وخطط عمل ممنهجة، يمكن بموجبها إعمال مختلف معايير الحكم الرشيد من شفافية ومساءلة ومحاسبة، وغيرها من أدوات كفيلة بضبط العملية السياسية باتجاه تحول ديمقراطى حقيقى وجاد. من هنا فإن تغليب النظام الفردى فى الانتخابات البرلمانية، المملوكة مفاتيحه لأتباع مبارك وبديع على السواء، ما هو إلا مقدمة بالقطع تُنبئ بنتائجها، وما هى جديدة على المشهد الوطني، حتى بات المواطن البسيط لا يدرك من نائبه البرلمانى إلا مجموعة من الخدمات الحياتية البسيطة، دون إدراك للتداعيات السلبية الناتجة عن تخلف النائب البرلمانى عن أداء دوره الحقيقي، باعتباره نائباً عن الأمة كلها وليس عن دائرته الانتخابية؛ ومن ثم فمسئولياته الأجدر بالرعاية تتجسد فيما رسخ فى المجتمعات الديمقراطية من ممارسات نيابية، تُعلى من شأن الدور التشريعى للبرلمان، والذى من خلاله يضع التشريعات اللازمة لضبط حركة المجتمع، إلى جانب الدور الرقابى، كسبيل لتقويم أداء السلطة التنفيذية. أما نائب الخدمات فمحله المحليات، بوصفها الأقرب إلى تفاصيل الحياة اليومية للناس، فى ظل فلسفة لا مركزية عبر عنها الدستور الجديد، وهو أمر كان ينبغى أن نجد له صداه فى الاستحقاق البرلمانى المقبل، أما الثبات على ذات النهج المعادى للأحزاب السياسية، فليس فيه ما يدعم قناعات إيجابية تتعلق بممارسات نيابية تلبى الطموحات الثورية المتصاعدة. فنائب يأتى وفق الأدوات البالية السابق الإشارة إليها، لا شك أنه لا يملك ما يقدمه إزاء ثورة تشريعية واسعة، باتت ضرورة مُلحة، ومهمة شاقة أمام البرلمان المقبل، بموجبها تتسق مختلف محاور العمل الوطنى مع المبادئ والأهداف التى ضمها الدستور الجديد. من جهة أخرى، فإن نائب برلمانيًا يأتى على قواعد أنظمة فاشية أسقطتها الثورة المصرية، لا يمكن الوثوق فى تبنيه للقضايا الأساسية التى عبرت الثورة عن أولويتها داخل الأجندة الوطنية؛ فأى دور يمكن أن تؤديه رموز تلك الأنظمة الفاشية الفاشلة فى بناء دولة ديمقراطية حديثة وعادلة، نبتغى بناءها على أنقاضهم. لعل فى ذلك إشارة واجبة إلى خطورة المسئولية الملقاة على عاتق الناخب أمام صندوق الاقتراع، فلم يعد للثورة رهانات متاحة أشد عزماً من قدرة أبنائها على التمسك بثورتهم، وتصحيح الخطوة، فتفريط فى تلك المسئولية، لا طاقة للوطن بتكلفته العالية؛ وما تتيحه من إجابات أخرى؛ إذا ما ظل التساؤل حائراً.. «وماذا بعد؟!».!