إلى مستوياته الدنيا، يتراجع مفهوم «البرنامج الانتخابي» فيما تشهده المجتمعات غير الديمقراطية من استحقاقات من شأنها اختيار نواب البرلمان، وبطبيعة الحال يمتد الأمر ذاته ليطال «المعايير» المنوط بها تعيين القيادات فى المواقع المهمة داخل منظومة إدارة شئون الدولة. إذ لا يرقى «البرنامج الانتخابي» فى الحالة الأولى إلى مصاف القبليات والعصبيات وقسوة خياراتها، نفس تخاذله فى مواجهة نفوذ المال السياسي، تمامًا كما لا تُعد الكفاءة، والخبرة، والمعرفة الأكاديمية؛ بدائل مناسبة للمواءمات والمجاملات والمصالح المتبادلة فى الحالة الثانية.! وبين الحالتين، تحيا الأمم غير الديمقراطية بعيدة عن حقوقها المشروعة فى حياة كريمة حرة، وتفقد الدولة قدرتها على ملاحقة الطموحات الشعبية المتزايدة بفعل ما أتاحته ثورة الاتصالات، وما تكشف عنه من فروق مذهلة فيما بين الحياة المترفة فى الدول المتحضرة المتقدمة ديمقراطيًا، وصراع من أجل البقاء على قيد الحياة تخوضه شعوب الدول غير الديمقراطية، وهى لا تدرك مما وصلت إليه البشرية من تطور إلا مظاهر سطحية كما فى شاشات الفضائيات والهواتف المحمولة. وبدرجات متفاوتة، الحديث عن مجمل المجتمعات غير الديمقراطية، الساعى منها نحو تحول ديمقراطى حقيقي، قسرًا أو طوعًا، والراكد منها ففى سُباته، قهرًا أو تنعمًا فى اقتصاد مريح، تتراجع فى ظله دوافع التغيير ولو إلى حين. ففى انعدام أو ضعف العملية الديمقراطية، الارتباط وثيق بين الأمرين، تراجع مفهوم»البرنامج الانتخابي» وغياب «معايير موضوعية» لاختيار القيادات التنفيذية المنوط بها إدارة شئون الدولة؛ فإفراغ لجوهر مفهوم «البرنامج الانتخابي»، يقابله بالقطع تغييب للمعايير الموضوعية لاختيار القيادات التنفيذية؛ إذ لا حاجة للحاكم لبلوغ حقيقة الإرادة الشعبية، كما لا عائد للشعب إذا ما تمكن من كشف حقيقة إرادته؛ إذ العناء مرير جراء غياب طويل ينال من وجود أى أثر لمختلف المفاهيم الحاكمة للحكم الرشيد، من سيادة القانون والشفافية والمراقبة والمساءلة والمحاسبة، فضلًا عن حرية الرأى والتعبير. ولا أثر كذلك لمفهوم «الثورة الشعبية» على الأرض إذا ما عجزت عن إحداث تغييرات جذرية، تنال من حقيقة المعادلة السابقة، فحقيقة الأمر أن الثورة تعلن برنامجها فيما تحمله من نداءات ومطالب، بينما ينجح فى تمثيلها والتعبير عنها، من يحملها إلى أرض الواقع ببرنامج عمل صادق وأمين، ولعل فى ذلك توصيف حقيقى لما واجهته ثورة يناير المجيدة من عثرات؛ إذ لم تجد من يقود طموحاتها إلى الواقع، بينما نجح الرئيس السيسى فى قيادة طموحات ثورة الثلاثين من يونية، على نحو يشى بأن الرجل استمد منها برنامج عمله منذ اليوم الأول، وربما فسر ذلك قبول الشعب تضحيات حياتية نالت من اعتياده ثقافة «المنح والهبات» التى طالما داعب بها الطغاة آلام الشعب المقهور، وعلى نحو غير مسبوق ربح الرئيس رهانه على مساندة الشعب له. وبينما المشهد الداخلى يتأهب لاستعادة فعاليات السباق البرلمانى المنوط به استكمال المؤسسات الدستورية للدولة، بخطوة البرلمان، كاستحقاق ثالث وأخير لخارطة المستقبل، يجدر بنا التأكيد على أهمية استيعاب كافة المفاهيم المرتبطة بالعملية الديمقراطية؛ فإذا ما أراد الشعب من الحاكم «معايير موضوعية» فعالة لاختيار القيادات التنفيذية، فليس أقل من تمسك الشعب بحتمية وجود «برنامج انتخابي»، يعبر بصدق عن رؤية موضوعية ومبدعة، ينتظرها الخضوع لمحددات الحكم الرشيد السابق الإشارة إليها. فإذا ما بلغنا الأمر على هذا النحو، إلى آفاق بعيدة يصعد الأمل فى أن يُحسن الشعب اختيار نوابه فى برلمان أكسبه الدستور أهمية لا يمكن التقليل من شأنها مهما كان رصيد الرئيس فى أوساط الرأى العام؛ فليس فى ديمقراطية إدارة شئون الدولة ما يمكن أن يتيح تفوقًا لمفهوم «المنافسة» بين الرئيس والبرلمان؛ إذ الغلبة لمفهوم «المسئولية الوطنية»، لننطلق منه جميعًا، نؤكد جدارتنا بنظام ديمقراطي، يجسد حقيقة ما جاء فى الدستور من فصل وتوازن بين السلطات. «الوفد»