لا شك فيما تنتجه الثورات الشعبية من طموحات متصاعدة تعبر عن رغبات شعبية جارفة في تحقيق حياة أفضل، تجسد الشعارات التي اعتلت حناجر الملايين الثائرة، أملاً في إحداث تغيرات جذرية تنال من مختلف أوجه الحياة، وفق الأولويات التي تبنتها الثورة. ورغم العثرات التي مُنيت بها الثورة المصرية، إلا أن الشعب المصري قد آثر الاحتفاظ بحقه المشروع في بناء دولته الديمقراطية الحديثة الكفيلة بإدراجه ضمن منظومة الدول الديمقراطية المتحضرة، خروجاً علي عوامل التخلف التي أحاطت بالوطن جراء فاشية وفساد أنظمة تتابعت علي غير سند شرعي من إنجاز حقيقي. والواقع أن الشعبية الجارفة التي جاء بها السيسي رئيساً، لا ينبغي احتجازها في إطار ضيق من «رغبة في تحقيق الأمن»، ففي ذلك تبسيط مُخل لآمال شعب استشعر في الرجل قدرة علي مواجهة المخاطر والتحديات، ورغبة مخلصة في تحقيق إنجاز حقيقي في ظرف تاريخي مضطرب. وبقدر ما يفسر ذلك حقيقة لطالما شكلت احتمالاً غير متوقع لدى الكثير من «الخبراء»، مفادها تقبل الشعب للقرارات الاقتصادية الصعبة التي صدرت في أعقاب تولي الرئيس السيسي مسئولياته، فإن رغبة حقيقية وجادة في التغيير نحو الأفضل، كانت حاكمة لاستيعاب الشعب للأعباء التي أضافتها إجراءات اقتصادية باتت مُلحة علي طريق الإصلاح الاقتصادي. ولعل في ذلك ما يشير بوضوح إلي الأثر «السياسي» لرئيس أحبه شعبه والتف حوله، فتقبل عن ثقة، قرارات لم يكن مسعاها باتجاه كسب شعبية مؤقتة، أو مداعبة مشاعر إنسانية ضعيفة أمام احتياجاتها، علي حساب رؤية موضوعية تنطلق من مسئولية وطنية، وحرص علي تفعيل الشعارات التي نادت بها الثورة، وإن كان بطريق غير مألوف. وعلي ذلك، وبالنظر إلي ما أضافه الدستور الجديد من مهام واختصاصات للحكومة، فإن وجود حكومة سياسية، تمتلك رؤية واضحة ومحددة، وتستند إلي شعبية صلبة علي الأرض تتيح لها مشاركة شعبية فعالة، بات أمراً لا بديل عنه، وهو ما ينبغي أن يترك صداه في الانتخابات البرلمانية المقبلة؛ ومن ثم فإن محاولات تشويه دور الأحزاب، استناداً إلي ما يشوب أداء بعضها من سلبيات، هو أمر لا يصب في صالح تجربتنا الديمقراطية، ولا يحقق اتساقاً واجباً مع مجريات الأمور. من هنا فإن قيماً جديدة تبدو في الأفق، وقد اتخذت موقعها ضميراً وطنياً حياً؛ وبالتالي ينبغي أن نبني عليها عالياً، وصولاً إلي تجسيد الطموحات الثورية المشروعة في دولة ديمقراطية حديثة، تظللها سيادة القانون. وتأتي الشفافية علي رأس هذه القيم، وما يتبعها بالضرورة من مساءلة ومحاسبة، فضلاً عن حرية تداول المعلومات، وهي أمور تعارفت الدول الديمقراطية المعاصرة علي اعتبارها من معايير الحكم الرشيد، المستند إلي سيادة القانون. من جهة أخرى، فإن ترسيخاً واجباً لتلك القيم الثورية، يكرس لحياة ديمقراطية حقيقية، لا يصح توقعه ما لم تتسق كافة الجهود الوطنية، وفق رؤية تستند إلي مجموعة القواسم المشتركة الجامعة لمختلف القوى الثورية المعبرة عن طموحات الشعب في حياة أفضل؛ ومن ثم لا ينبغي إغفال أهمية اتساق كافة مكونات الدولة في السعي نحو اتخاذ تلك القيم الثورية دليلاً هادياً إلي تحقيق مبادئ وأهداف الثورة. وعليه فإن برلماناً لا يجسد تلك الحالة المجتمعية، ولا يعبر عن تغيراً حقيقياً في منطلقات العمل الوطني، هو برلمان يصعب التعويل عليه كثيراً في تجسيد آمال شعب ثار علي القيم السلبية التي طالما كانت مرتكزاً لنوابه في عهود سابقة. يؤكد ذلك جملة من الاختصاصات الواسعة التي أوكلها الدستور الجديد إلي البرلمان في مواجهة السلطة التنفيذية؛ ومن ثم لا بديل عن برلمان يشكل منتجاً ثورياً بالأساس، دعماً للقيم الثورية النبيلة التي حرص الرئيس السيسي علي الرفع من شأنها في مستهل توليه مسئولياته، وليس «الظهير الفكري» إلا كذلك. «الوفد»