لا يثير السلفيون أي مخاوف عندما يكونون في حالة "السكون"، فهم يترددون على المساجد للصلاة أو الدروس، ويقدمون بعض الخدمات في محيطهم، ولا يشتبكون مع مخالفيهم أو أجهزة الدولة، ويرفضون أي خروج على الحاكم، لهذا يصفونهم بأنهم متدينون مثاليون وطيبون، ولهذا لا يتعرضون لأي ملاحقات أمنية، بل قد يتلقون بعض الدعم، لنشر مثل هذا النموذج المثالي، وليكون بديلا عن أولئك الإرهابيين المتوحشين. يواصل هؤلاء السلفيون الطيبون نشر فكرهم السلفي التكفيري في هدوء وأمان، ويجتذبون الشباب المأزومين، ويشرعون في تلقينهم الفكر السلفي، ويقدمون لهم بعض المساعدات، سواء في العثور على عمل أو مسكن أو زوجة، ويكلفوهم ببعض مهام الدعوة حسب قدرات كل منهم. عادة ما تكون الجماعات السلفية “الساكنة” بمثابة المفرخة والحاضنة للسلفيين الجدد، ومحطة رئيسية للتجنيد والتوجيه، بعدها ينتقل السلفي الجديد إلى مرحلة أخرى، في مكان آخر، ويتابعه مسئولون آخرون أقل سكينة وطيبة، لكن عندما ينشب الصراع، وتدق الحرب طبولها، يتحول معظم السلفيين “الساكنين” إلى “مجاهدين”، وهذا لا يستلزم الكثير من الإعداد، فهم يكفرون المجتمع، وإن كانوا قد تحاشوا الصدام معه، وكذلك يرفضون الخروج على الحاكم المسلم، حتى لو كان فاسقا أو ظالما، لكن تكفي فتوى واحدة تنفي عن الحاكم كونه مسلما، لتبرر الخروج عليه ومحاربته، والأدلة كثيرة وجاهزة لتكفير الحاكم، أهمها أنه لا يطبق شرع الله. هذه الجماعات السلفية “الساكنة” تنتشر في كل ربوع البلدان العربية، وتتلقى دعما مباشرا أو مستترا من رجال خيرين من دول عديدة، وأحيانا من أجهزة في هذه الدول، إلى جانب بعض رجال الأعمال الخيرين في الداخل، وتقيم هذه الجماعات مشروعات خيرية من مستوصفات، أو دروس تقوية للطلاب، أو مشاغل صغيرة توفر فرص عمل لأعضائهم أو المستهدفين، أو على الأقل خلق حاضنة شعبية في معاقلهم. استمر مفهوم “الهجرة” لدى الجماعات التكفيرية، منذ ظهوره في السبعينيات على أيدي جماعة “الدعوة والهجرة” المعروفة إعلاميا باسم “التكفير والهجرة”، التي أسسها شكري مصطفى، الذي كان عضوا في جماعة الإخوان، ودخل معهم السجن في الستينيات، وخرج معهم في عهد السادات في السبعينيات، وجرى إعدامه بعد اغتيال تنظيمه للشيخ الذهبي وزير الأوقاف الأسبق، وتطورت فكرة الهجرة مع سفر الآلاف إلى أفغانستان لمحاربة الحكم الشيوعي هناك، ومنها انطلقت فكرة تأسيس دولة إسلامية، ثم الإنطلاق منها لغزو باقي البلدان. هكذا انتقل أبو مصعب الزرقاوي من الأردن إلى العراق، حيث وجد أرضا خصبة لتشكيل دولة الإسلام، حيث دولة تعمها الفوضى، بعد الاحتلال الأمريكي، وأسس كتائب “التوحيد والجهاد”، ثم مجلس شورى المجاهدين، الذي ضم ثماني تنظيمات، كانت تحارب الأمريكان، وهنا جرى دمج أعداد كبيرة من الجيش العراقي الذي حله الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر، والذي كان يضم نحو مليون مقاتل من مختلف الرتب، وله خبرة كبيرة. تبدأ الخطة دائماً بنفس التفاصيل: تجتذب المجموعة تابعيها عبر افتتاح مركزا للدعوة. ويتم اختيار شخص أو شخصين ممن يحضرون الدروس والندوات الدينية ويوكلون بمهمة التجسس على قُراهم للحصول على معلومات عديدة، مثل تحديد العائلات ذات النفوذ، ومصادر دخلهم، وأسماء المعارضين للنظام وقادتهم، والأنشطة غير المشروعة للشخصيات المؤثرة، للاستفادة منها بالابتزاز إن لزم الأمر. وهكذا امتزجت خبرة الجماعات الإرهابية مع الخبرة المهمة للمخابرات العراقية في الإخضاع والسيطرة على السكان والمقاتلين، فكان يتم تشكيل مجموعات تجسس مختلفة، حتى يشعر كل شخص في الجماعة مهما كان مركزه أنه مراقب طوال الوقت، ويجري تصفية فورية لكل من يتصرف بشكل يثير الشكوك، مع تشكيل فرقة لتصفية أي شخص من السكان إذا لم يتعاون مع الجماعة. ومع تأسيس نواة الدولة، واستيلائها على مساحة مناسبة من الأرض، يجري نقل “كتائب المقاتلين المحمولة جوا”، وتشير التقديرات إلى نقل نحو 20 ألف مقاتل أجنبي إلى سوريا، وكانت أهم المعابر هي تركيا ولبنان والأردن، قدموا من تونس وليبيا والسعودية ومصر والشيشان، ونحو 80 دولة حول العالم، بمساعدة مخابرات عدة دول أجنبية وعربية، لكل غايته من تأسيس “داعش” التي انطلقت من شمال سورياوالعراق كسيل جارف لتحتل نصف العراق وشرق سوريا في عدة أيام، وترفع فوقها الراية السوداء للدولة الإسلامية في العراق والشام. كلمة أخيرة: عندما أشرت إلي نموذج سلامة كيلة في معرض حديثي عن “الاشتراكيين الداعشيين” لم أقصد علاقته الوثيقة بالمركز العربي (القطري) للأبحاث، الذي يديره عزمي بشارة، أو غيرها من المؤسسات القطرية الإخوانية التي تعد أدوات إعلامية للسياسة القطرية، فهذا ليس لب الموضوع أو أساس الارتباط، وإنما الأهم الارتباط بالهدف، ونتعلم منه كيف تكون اشتراكياً وداعشياً في نفس الوقت، رغم التعارض التام بين الاشتراكية والداعشية سواء علي الصعيد الفكري أو الطبقي أو الوطني. الموقف الصحيح هو أن يشارك الاشتراكيون في الدفاع عن الوطن ضد غزوات الجماعات الإرهابية المدعومة من الخارج، وهو ما يحقق مكاسب وطنية وديمقراطية في آن واحد، فالشعب عندما يشارك في مواجهة الغزو، سيدفع قضية تحرره الوطني والاجتماعي إلي الأمام، بينما حمل السلاح في مواجهة الدولة، والوقوف إلي جانب غزوات الإرهابيين المدعومين من القوي الاستعمارية والرجعية فسوف تؤدي إلي كارثة. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد